أدوار الأدب

29 سبتمبر 2023
تمثال للشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي في موقع بناء بموسكو، 2012 (Getty)
+ الخط -

اللافت أنْ تشهد الثورات والانتفاضات والتمرُّدات، ذات الطابع الشعبي، ميلاً، لدى قسم كبير من المشاركين فيها، إلى التقليل من شأن الأدب. سوف تسمع هنا وهناك مَن يُردّد أنّ الوقت الآن للكلمة المباشرة، والتقرير، والخطاب الواضح الذي يُحدّد أهدافة بعيداً عن المجاز و"الرومانسية".

وربّما يكمُن الأمر في أنّ لحظة الهبّة الثورية تُخلي البشر من مشاعر المعاناة بالمجمل، إنّها الساعات التي يندمج فيها الفرد مع الجماعة تحت يافطة جامعة تتحوّل إلى جواب عن كلّ الأسئلة، أو إلى تعويذة خلاص مُنقِذة، تضع البشر في لحظات من الفرح والبهجة الخالصَين، وتُوحي لهم أنّ الأمل قريب، وأنه لا يستلزم الاستعانة بأحد.

الراجح أن تكون التربية الجمالية، أو الأدبية، التي تلقّاها الناس، في مراحل التعلُّم، في الكثير من الثقافات التي تعتبر الأدب خادماً في حضرة المجتمع، قد سلّطت الضوء على وظيفة الأدب في التحضير للثورة، وهو الأمر الذي يُطلق عليه اسم التنوير (إذ يعتبر الأدب في العُرف العام أداة تنوير أيضاً)، وهو سابق في كلّ مجتمع بالضرورة على حركات التمرّد والثورة، أكثر من دوره الجمالي، وفي ساعة قيام الثورة، يُصبح الأدب في حالة عطالة، فقد أدّى الغرض، ولم يعد لازماً، أمام العمل الذي ينفّذ على الأرض.

الحكاية من جديد هي حكاية العلاقة بين الواقع والأدب

ومن المحتمل أيضاً أن تكون طبيعة الأدب، وخاصة الرواية والقصة، التي تتطلّب وقتاً وفرصة للقراءة المتأنّية، هي التي تجعلُه يبدو في نظر الجمهور المتحمِّس بلا ضرورة في الانتفاضة الحاشدة، أو يُمكن تأجيل النظر في أمره، بخلاف الشعر القادر على التعبير عن اللحظة، وخاصة ذلك الشعر الخطابي الحماسي الذي يستطيع استيعاب الشعار واللافتة اللذين يتفوّقان على كلّ ما عداهما من أشكال التعبير في مثل هذه الأوقات.

وربّما كانت هذه المواقف تفسّر اعتراض بعض الروائيّين والشعراء على ثورات الربيع العربي، إذ يبدو أحياناً أنّ الثورة، كفعلٍ يوميٍّ على الأرض، تستغني عن كلماتهم، وتصنع كلماتها بنفسها، وهو ما يُغضب الكاتب أو المثقّف عامة. يُعادي بعض الكتّاب العرب الانتفاضة، دون أن يُدركوا أنّ الحشود تتعلّق، في لحظات الهبّات، بالشعار أكثر من تعلُّقها بالنصوص (والطريف في الأمر أنّ عدداً من الكُتّاب العرب الذين عادوا الثورات العربية، بنَوا مجدَهم الأدبي على أساس أنهم يمثّلون مطالب التحرّر)، كما أنّ السياسي الذي يتصدّر المشهد يعتبر نفسه في هذا الأوان مرجعاً لا يقبل أحكام الأدب. الغريب في الأمر أن يتبنّى شاعر أو شاعرة مثل هذه المعاني، ويبدأ الحطّ من قيمة الأدب.

وفي المقابل، فإنّ ثورة أكتوبر 1917 الروسية مثلاً لم تستطع احتمال وجود شاعر مثل يسينين، أو جماعة المستقبليّين الروس، وغادر غوركي روسيا إلى إيطاليا، والشائع أن ماياكوفسكي انتحر بسبب تناقضات من هذا النوع بين المثقّف والثورة. وأبرز التناقضات التي قد تنشأ بين الأدب والثورة كامنة في رغبة الأدب تجديد النوع، وابتكار التقنيّات، أي تثوير الأدب والفنّ، بينما تنحو الثورة نحو الخدمة اليومية، والوظائف المنوطة بالأدب، والمهامّ المطلوبة منه في اللحظة الراهنة.

الحكاية من جديد هي حكاية العلاقة بين الواقع والأدب.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون