على الرغم من اعتراف الحكومة التركية بدولة الكيان الصهيوني عام 1949، فإنّ قضية فلسطين بقيت حاضرة في المجتمع التركي بشكل كبير، ومَن يعرف هذا المجتمع من الداخل، يلاحظ أنّ التضامن مع فلسطين هو السّمة السائدة وسط الانقسامات الحادّة بين اليمين واليسار بمختلف أبعادهما الدينية والقومية.
وتاريخياً، حظيت مدينة القدس باهتمام خاصّ من السلاطين العثمانيّين، منذ أن دخلها السلطان سليم الأوّل عام 1516. وقد انعكس هذا الاهتمام على الأدب العثماني، حيث ذُكرت مدينة القدس في العديد من قصائد شعراء الديوان، مثل فيضي عثمان حسام زاده ومهدي سامسونالي في سياق حديثهما عن الإسراء والمعراج. وفي القرن الخامس عشر، خصَّص الشاعر نجاتي، وهو أحد أبرز شعراء ذلك القرن، قصيدةً للمسجد الأقصى، وحقَّقت شهرة كبيرة آنذاك.
بدأ بعض شعراء تلك الفترة بتخصيص قصائد عن المعراج فقط، وعُرفت في الأدب التركي الكلاسيكي باسم "المعراجيات"، ويعدُّ الشاعر الأحمدي أوّلَ من كتب في هذا اللون الشعري في القرن الخامس عشر، حيث كتب قصيدة مطوّلة بعنوان "تحقيق معراج الرسول" في 497 بيتاً. كما كتب شعراء كثيرون آخرون في هذا اللون من الشعر، مثل عاشق باشا، واستمرّ هذا التقليد في الشعر حتى القرن التاسع عشر، ويُعتبر محمد بهاء الدين آخر من كتب في شعر المعراجيات.
جمع آدم توران قصائد الأتراك عن فلسطين في كتاب "اسمي القدس"
وإلى جانب هذه الأشعار، وردت القدس في العديد من الرحلات العثمانية المعروفة بـ"سياحتنامه"، مثل كتاب "أوصاف المساجد الشريفة" لأحمد فقيه في القرن الثالث عشر، وكتاب الرحّالة الشهير أوليا جلبي في القرن السابع عشر، وكتابَي "تحفة الحرمين" للشاعر يوسف نابي و"مرآة القدس" للمُلّا حفظي في نفس القرن أيضاً. كما ذُكرت القدس في نوع أدبي عثماني آخر، يُعرف بالـ"فَتِحْنَامه"، وهي الأعمال التي يُذكر فيها وقائع فتح المدن، مثل "فتحنامه القدس" لعبد الله فيجاني زاده تشورومي في القرن الثامن عشر.
أمّا في ما يخصّ ذكر فلسطين والقدس في الشعر التركي الحديث، فتنبغي الإشارة إلى أنّ توجُّه الجمهورية التركية برئاسة أتاتورك نحو الغرب تسبّب في تراجُع الاهتمام العامّ، ليس بفلسطين فقط، ولكن بالعالم العربي بأكمله. بعد النكبة الفلسطينية واعتراف الحكومة التركية بدولة الكيان الصهيوني، اقتصر الاهتمام بفلسطين على التيار المحافظ، الذي نظر إلى قضية فلسطين باعتبارها قضية إسلامية فقط.
وقد مثَّلت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 نقطة تحوّل مهمّة في النظر إلى فلسطين في تركيا، حيث بدأت شريحة كبيرة من التيار الإسلامي المحافظ في التعبير بوضوح عن تضامنها مع قضية فلسطين، وقد تزامن ذلك مع صعود حركات الشباب الإسلامي في تركيا. وفي تلك الفترة، بدأت مجموعة من الشعراء في الكتابة عن فلسطين كقضية إسلامية، من بينهم الشاعر نجيب فاضل في مجلّة "الشرق الكبير"، وبدأ الشاعر سيزائي كاراكوتش في كتابة أُولى القصائد عن فلسطين في مجلّة "البعث"، كما كتب الشاعر نوري باكديل أيضاً قصائد كثيرة حول القدس في مجلّة "الأدب". وقد ساهموا في حشد شرائح كبيرة من المجتمع التركي حول قضية فلسطين.
ويُعدّ سيزائي كاراكوتش (1933 - 2021) من الشعراء الرائدين في الكتابة حول فلسطين والقدس في تركيا. ويَعتبر النقّاد أنّ قصيدته عن إحراق المسجد الأقصى عام 1969 هي أوّل إنتاج أدبي عن فلسطين في الأدب التركي الحديث. يقول في قصيدة له بعنوان "ساعة القدر": "ومدينة القدس، هي تلك المدينة التي بُنيت في السماء وأُنزلت إلى الأرض/ مدينة الربّ ومدينة الإنسانية جمعاء/ المدينة التي تُخفي الحمم تحتها/ ماذا تقول القدسُ لي الآن؟ ألم تعدني بشمعدان دمشق/ كنتَ ستضعه على قبر النبي سليمان/ مصباحاً ينير الأرواح، ويحوّل العفريت إلى إنسان/ سوف يطفئ عيني الوحش".
بعد انتشار قصائد كاراكوتش حول فلسطين، صار البلد المحتلّ موضوعاً لقصائد العديد من الشعراء الأتراك، من بينهم الشاعر نوري بكديل (1934 - 2019) الذي جعل من القدس قضيةَ حياة، ومن أبرز أقواله في هذا السياق: "بدون حبّ القدس، لا يمكن للمرء أن يعبر من بوابة الإنسانية". وقد كتب قسماً كبيراً من شعره عن القدس، حتى أُطلق عليه في تركيا "شاعر القدس". يقول في قصيدة له بعنوان "الأمّهات والقدس": "عِش جبل الطور واعرف أين هو/ إنّني أحمل القدسَ مثل ساعة في يدي/ سيضيع الوقتُ هباءً إن لم تضبطه على القدس/ تتجمَّد وتعمى عيناك/ تعالي وكوني أُمّاً، لأنّ الأمّ تصنع من الطفلِ قدساً/ عندما يصبح الرجل أباً، يُحيي القدسَ في داخله".
جدير بالذكر أنّ الشاعر آدم توران قد جمع قصائد الشعراء الأتراك حول فلسطين بشكل عام، أو القدس بشكل خاص، في كتاب بعنوان "اسمي القدس"، وصدر عن "دار أوهيم" عام 2018. ومن بين القصائد التي أوردها في كتابه، قصيدة للشاعر رضوان جانيم، يقول فيها: "يُطلقون الرصاص من اثنتين وسبعين ناحية، ولا تسقطين/ اثنتان وسبعون وردة تتفتّح في جسدكِ، واثنان وسبعون قلباً ينفجر من الخوف/ كيف أصبحتْ عيناكِ كربلاء فجأةً؟/ كيف يشبه قلبكِ فلسطينَ، كيف؟".
وأخيراً، هناك الكثير من الشعراء الأتراك الذين كتبوا العديد من القصائد عن فلسطين، مثل جاهد ظريف أوغلو، ومحمد عاكف إنان، كما أنّ الكتابة عن فلسطين لم تتوقّف في الشعر التركي المعاصر، فهناك العديد من أسماء الشعراء الذين أكملوا مسيرة كاراكوتش ونوري بكديل، مثل عارف آي ومتين جنكيز، وغيرهما من الجيل الحالي.