"نيتشه في الجنة": تحرّرٌ من عُقد الاستشراق الإيطالي

08 فبراير 2022
فرانتشيسكا بوكا-الدقر
+ الخط -

لا يختلف اثنان على أن الدراسات الاستشراقية في إيطاليا، أو ما أصبح يطلق عليه مؤخراً اسم الدراسات الاستعرابية، هي الأكثر تخلفاً في السياق الأوروبي قياساً بالمدرسة الإنكليزية أو الألمانية، وحتى مدارس مستجدة كالمدرسة الأميركية. هذه الأخيرة على الرغم من كونها لا تستند إلى تقاليد منهجية عريقة كتقاليد المدرسة الألمانية، إلا أنها تمكنت من فرض نفسها قبل عقود كأحد أهم روافد الدراسات الاستعرابية في العالم. 

وتماماً كما أن أسباب ريادة المدرسة الأميركية يفسرها شرط موضوعي يتمثل أساساً في انفتاح الأكاديميا الأميركية على الأصوات النقدية العربية أو التي تمثل العالم العربي، كالمفكر إدوارد سعيد سابقاً، وأسماء عديدة موجودة في الوقت الحالي، تبقى الأكاديميا الإيطالية تعاني من مشاكل بنيوية عميقة تتعلق بذهنية العمل المؤسساتي في إيطاليا بوجه عام والتي تطغى عليها الشللية والعلاقات الشخصية، كما لمّح لذلك الباحث التونسي عز الدين عناية في آخر مقالاته حول المستشرقين الجدد في إيطاليا، وهو ما يضع هؤلاء خارج المنافسة في ما يتعلق بصناعة مدرسة حقيقية قادرة على مقارعة المدارس الغربية الجادة في بيئة الاستشراق.

وعلى الرغم من أن الصدأ المتراكم على الإصدارات الاستعرابية في إيطاليا بدا وكأنه أخذ في الانحسار نوعاً ما بعد دخول باحثين مستقلين على خط المنافسة في العقد الأخير، الأمر الذي ساهم في إعطاء مسحة شبه ديناميكة على البيئة الاستعرابية في بلد دانتي، إلا أن الركاكات التي صنعها المستعربون الجدد من خلال إصدارات تعتمد على خطاب "الكيتش" بالدرجة الأولى، والترويج الشعبوي للنتاج الثقافي العربي، أدى إلى إيقاع الاستعراب الإيطالي في الإسفاف فضلاً عن انعدام العمق الذي كان يميزه بالأساس.

ترصد التقاطعات الفكرية بين أعلام الغرب والعالم الإسلامي

هذه الحالة قد يكون مردها عدا عن ضيق الأفق النقدي للباحثين الإيطاليين المستقلين منهم والأكاديميين، والذي يظهر بشكل جلي من خلال الاعتماد على مراجع ثابتة منذ عقود على غرار "الاستشراق" لإدوارد سعيد ـ وهو الكتاب الذي نال حظه من النقد الرصين حول العالم ـ إلا أنه في إيطاليا لا يزال يعتبر إنجيل المستعربين، بالإضافة إلى الانغلاق التام على الإصدارات النقدية العربية الحديثة، وقبل كل هذا وذاك "عصرنة" حقل الاستشراق من بوابة الإيديولوجيا. وحيث أنه يفترض أن تستمد الجامعة مصداقيتها من الانضباط المنهجي لأصحابها، غرق النشطاء ـ الأكاديميون في مقاربات مهلهلة للأدب العربي قائمة على تعاطفات سياسية، ما حوّل معجم الاستعراب الإيطالي إلى قاموس شعارات بدل أن يكون حقلاً مضبوطاً بمنهجية صارمة. 

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار فترة السرديات الكبرى، عانى الاستشراق الإيطالي الذي لم يؤسس لنسق فكري مستقل عن الإيديولوجيا مرحلة يُتْم فكري دشّن بعدها مرحلة المقاربات الفردانية ـ الإنسانوية التي تعتمد في أغلبها على منظور تضخيم الألم pain catastrophizing، ما أفرز إصدارات نقدية وترجمات تندرج جلّها ضمن مقاربات الصدمة  Trauma ـ بالمفهوم الذي تصدى له آلان فرانسيس ـ وبورنوغرافيا المعاناة. 

إلا أنه ومع تزايد امتعاض المبدع العربي من صورة الضحية الأبدية في الدوائر الغربية، تراجع هذا التيار قليلاً مانحاً مكانه لـ"الخط الوردي" في مقاربة الثقافة العربية، وقد تصبح "نتفليكس" قريباً هي مرجعية المستشرق الإيطالي الشاب الذي لا يستند إلى أي تقاليد حقيقية في هذا  الحقل المعرفي، حيث بدأت بعض ملامح هذا النهج تتشكل بالفعل. هذا الخط في مقاربة الثقافة العربية مرشح لأن يحصل على مزيد من الزخم إن زاد تفاعل الكاتب العربي مع أجوائه في السنوات القادمة. 

قد تصبح "نتفليكس" قريباً هي مرجعية المستشرق الإيطالي

وهكذا، ومع عبور "الأكتيفيزم" العالمي إلى مرحلة الأيديولويجيا الاستعراضية وعصر نضال البوب، أصبح المستعربون الإيطاليون الجدد ضمن هذه الموجة هم نشطاء "الويكند" (نهاية الأسبوع) النموذجيون الذين نراهم يجتمعون في تظاهرات سَمَر للترويج لأعمالهم على وقع حرب هنا أو مذبحة هناك بين كؤوس "العرق" ومناقيش الزعتر، بدل الانكباب على الممارسات البحثية المعمقة التي من شأنها التأسيس لمدرسة إيطالية يُعتد بها في الدراسات الاستعرابية. 

لكن في مقابل هذا الوضع، لا تزال تظهر في بعض الأحيان إصدارات مفاجئة تغرّد خارج السرب في ما يشبه الصدفة البحتة، وأخرى قائمة على أنساق فكرية مختلفة تصنعها أسماء واعية غير محسوبة أساساً على  دوائر الاستعراب المعروفة، وهي بذلك تملك مناعة عن الانزلاق في مهاوي مقاربات التيار الرائج، وهنا نذكر أسماء مكرسة على غرار بييترانجيلو بوتافووكو وأخرى شابة على غرار فرانتشيسكا بوكا-الدقر (1987).

هذه الأخيرة سجلت مع آخر إصداراتها "نيتشه في الجنة" أحد ألمع الإصدارات الإيطالية في السنوات الأخيرة، ولا غرو في أنها تستقي منهجيتها من المدرسة الألمانية. فبعد حصولها على الدكتوراه في علم الأعصاب من "جامعة لودفيغ ماكسيميليان" في ميونخ، ركزت بوكا على العلاقة بين الإسلام والفكر الغربي من خلال مؤلفات في البيداغوجيا والأدب والشعر والفلسفة، بالإضافة إلى عملها الجمعوي الجاد بترؤسها لمراكز بحوث مستقلة تعنى بنشر وتعميم الوعي بالثقافة الإسلامية على أسس منهجية صلبة، آخرها تأسيس "المعهد الأعلى للدراسات الإسلامية المعمقة"، وقبلها إدارة "معهد الدراسات الإسلامية ابن رشد،" وغيرها. 

نيتشه

"نيتشه في الجنة: حيوات موازية بين الإسلام والغرب" (منشورات ميميزيس، 2020)، هو عنوان العمل الذي وقفت فيه الكاتبة عند لحظات التقاطع الفكرية التي جمعت أبرز مفكري وفلاسفة وأدباء الغرب مع أهم علماء وشعراء وفلاسفة المسلمين. 

العمل البحثي المعمّق للمؤلفة أتى مكثّفاً في 112 صفحة، ولم يظهر فقط تمكّن المؤلفة من موضوع بحثها المركّب، بل أظهر تحرّرًا تامًا من كل العقد التي تواجه المستعرب الإيطالي الذي عادة ما يبرّر خياراته المنهجية غير الواثقة بتصديرات ساذجة على غرار: "هذا الكتاب يأتي لكسر الصور النمطية عن الثقافة العربية..." وما يشبهها من بلاغات مباشرة مستوحاة من لغة النشطاء الفجة، والتي فضلاً عن أنه تُظهر خطأ تواصلياً فادحاً مع القارئ فهي تعكس أزمة خطاب عميقة يعاني منها المستعربون الإيطاليون الذين يعيشون عقدة "الاستشراق" مما يجعلهم يلجأون إلى لغة هي أشبه بلغة البروباغندا المكشوفة بدل نحت سيميائية تراكمية ذكية عن موضوع بحثهم. 

فرانتشيسكا بوكا-الدقر في المقابل لا تكتب لتدحض عن نفسها تهمة "الاستشراق"، فهي تكتب الثقافة العربية بإجادة وصدق وثقة، ومن الداخل. كما أن عمقها المعرفي، وإلمامها بأدواتها يظهر في الثقافتين بشكل أفقي وعمودي على نحو لا يحتاج لأقنعة خطابية هشة تؤطرها.

في "نيتشه في الجنة" لم تقتصر الكاتبة على رصد الإشراقات الفكرية لدى أهم مفكري الغرب والشرق على الشق الشعري والأدبي بل خاضت في العلمي والفلسفي باقتدار وحملتنا على مدى ثمانية فصول لمحطات مفاجئة في حياة فريدريك نيتشه مع الإسلام محمد إقبال، ثم إيرنيست يونغر وجمال الدين الأفغاني، وليو تولستوي والإمام شامل، ومارتن هيدغر وابن عربي، وموريس ميرلو بونتي وابن الهيثم، ورونيه ديكارت وأبو حامد الغزالي، وفصل هو الأكثر تميزاً عن فيكتور هيغو أنهته المؤلفة بقفلة مدوية لعين القضاة الهمذاني. بينما تضمّن الفصل الأول مقابلة بين شخصيتين خياليتين من الأدب العالمي هما روبنسون كروزو وحي بن يقظان. 

المقاربة الأدبية التي اعتمدتها الكاتبة في عرض مادتها (لا ننسى أننا أمام شاعرة صدرت لها مجموعة "لا أحب الآفلين" في 2020)، أعطى الكتاب مسحة فريدة من نوعها ضمن بانوراما الإصدارات المتعلقة بالعالم العربي ـ الإسلامي والتي يكتبها عادة مستعربون "مونوتيماتيك" (أحاديّو الموضوع) بمعجم مكرور. بينما تظهر فرانتشيسكا بوكا-الدقر من خلال أعمالها المتنوعة كجوهرة إيطالية تتقاطع لديها مواضيع الكتابة وتتعالق، وهي من ينهل من روافد إرث لا يضع حدوداً بين الشاعر والعالم، مع الارتكاز على منهجية صلبة ترشحها لأن تسجّل اسمها عن استحقاق بين أبرز دارسي الثقافة العربية ـ الإسلامية في إيطاليا، والأكثر قدرة على تقديم مساهمات نوعية في حقل الاستعراب.


* كاتبة ومترجمة جزائرية مقيمة في إيطاليا

المساهمون