هند أبو حسنين.. صوتٌ يصرّ على سرد الحكاية

01 اغسطس 2024
من عرض "السقف" (العربي الجديد)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في عرض "السقف" بفرانكفورت، دعت هند أبو حسنين الجمهور لبناء مساحات خاصة بهم، وسردت قصصها الشخصية عن بيتها في غزّة، مما أضفى جواً من الألفة والحنين.
- هند تعيش في فرانكفورت بسبب العدوان الإسرائيلي على غزّة، وتحولت مشاعرها السلبية إلى طاقة إيجابية من خلال أعمالها الفنية، ساعية لنشر ثقافة مختلفة مع الجمهور الألماني.
- تواجه هند صعوبات في البيئة الفنية الجديدة بسبب إجراءات استصدار أوراقها الثبوتية، لكنها تواصل العمل على تكوين صداقات وتحضير عروض مفتوحة للجميع.

ما البيت بالنسبة لك؟ وماذا تحتاج كي تَشعر بأنّك فيه؟ هذان هما السؤالان اللذان طرحتهما الفنانة الغزّية هند أبو حسنين في عرضها المسرحي الأخير "السقف"، الذي عرض مؤخّراً في مسرح "موسون تورم" بمدينة فرانكفورت الألمانية، بمشاركة الفنانة الإيرانية یگانه شفیعی.

طلبت هند، التي جاءت إلى فرانكفورت قبل أسابيع من بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة، من جمهورها أن يستعملوا الأثاث والمعدّات الموجودة داخل قاعة العرض لبناء مساحات خاصّة بهم، يجلسون فيها أثناء العرض، بحيث تكون مساحة خاصة تناسب كل واحد منهم والمجموعة التي أتوا معها، ليكونوا بكامل أريحيّتهم أثناء العرض. 

بدأ الحضور ببناء "بيوت" صغيرة، استعملوا الوسائد والبطانيات والشرائط اللاصقة وأدوات الرسم والكراسي وغيرها ثم جلسوا فرادى أو مجتمعين. جهَّز بعضهم الديكور وزيّن "بيته" الصغير، بينما اكتفى آخرون برسم حدود تكفي أجسادهم وجلسوا أو استلقوا داخلها. 

أي عرض باسمها قد يُعرِّض المسرح للمساءلة القانونية
 

بعد أن اطمأنَّ كلّ إنسان لبيته، بدأت الفنانتان سرد القصة. بدأت یگانه شفیعی تحكي عن ذكريات بيت طفولتها. تحدّثت عن بيت صغير كانت تبنيه داخل غرفتها حين تريد أن تبتعد عن صخب المنزل وتجلس وحدها في مكانٍ خاصٍّ بها، وأنّها اليوم، ومع مرور عامين تقريباً على وجودها في ألمانيا، لا تزال -كلَّما ازداد عليها شعور الوحدة والغربة- تذهب بخيالها إلى تلك البقعة الآمنة. وأكبر هاجس لها اليوم أن تعود بعد غيبتها هذه إلى طهران، ويكون الشعور الطفولي بالانتماء والراحة قد زال، فتكون خسرت بيتاً في الوطن دون أن تستطيع أن تجد بيتاً في الغربة. 

أما هند أبو حسنين التي اضطرّت لتمديد إقامتها الفنية إلى أجل غير مسمّى، بسبب استمرار حرب الإبادة في غزّة، فالمكان الذي تعود إليه لتشعر بالألفة مجدداً هو بيت عائلتها صباح يوم الجمعة. تسرد هند، على طريقة الحكواتي، طرائف اشتعال البيت بالطاقة والنشاط لإتمام صباح الجمعة على أتمّ وجه، وكيف يتناوب الرجال على الحمام لتطبيق سنة اغتسال يوم الجمعة، بينما تتجمّع النساء والفتيات في المطبخ لبدء التخطيط والإعداد لغداء يوم الجمعة المشهود، الذي تجتمع فيه الأسرة كلّها.

تعود هند بذاكرتها إلى أيام جمع كثيرة قضتها مع أسرتها في مدينة غزّة، وتلملم تفاصيل كثيرة تشكِّل بها حكاية متكاملة لجو من الألفة، تُعود إليه وتأخذ معها جمهورها ليشعروا بالانتماء والراحة.

تحدِّث عن غرفتها الواسعة وجدرانها الطويلة، التي ولسبب ما فضّلت أن تدهن واحداً منها باللون الأصفر، وكيف كانت تأوي إليها بعد صخب صباح الجمعة، وتستريح العصرية تقرأ وتتأمل جدار الغرفة الأصفر؛ هذا الجدار بالذات الذي اخترقته في الأسابيع الأولى للحرب قذيفة إسرائيلية فتَّتته إلى أجزاء وذهبت بما تبقى من الشقة، بينما نجت الأسرة التي نزحت قبلها بأيام. 

هند أبو حسنين - القسم الثقافي
هند أبو حسنين

لا تتساءل هند اليوم إن كانت غزّة وبيت أسرتها سيتغيَّران عليها حين تعود، لا تتساءل إن كانت إقامتها في ألمانيا قد غيَّرت معنى البيت والألفة بالنسبة إليها، فالجواب أنّ البيت قد ذهب إلى الأبد، وغزّة مغطاة بالرماد والحطام. 

هند أبو حسنين الفنانة المسرحية من غزّة، الحاصلة على بكالوريوس الفنون الجميلة من "جامعة الأقصى"، قبل التحاقها بـ"معهد يوم المسرح للإنتاج"، تنوّع نشاطها الفنّي في غزّة بين الإخراج والتمثيل المسرحي، بالإضافة إلى مساهمتها في إحياء فنّ الحكواتي الذي استعملته في عرضها الأخير في مدينة فرانكفورت.

اضطرت إلى الإقامة في هذه المدينة الألمانية بعد أن تعسَّر عليها السفر إلى غزّة مع بدء العدوان الوحشي على القطاع وأهله. في حديثها مع "العربي الجديد" تُخبرنا عن كيف كان وقع الحرب عليها أكبر من كل الحروب السابقة، بسبب ابتعادها المكاني، علّماً أنها شهدت كل الحروب السابقة في غزّة مع والديها وأسرة أخيها. تقول: "ضميري يؤنّبني طيلة الوقت لأني أعيش في مكان آمن، بينما هم يواجهون إبادة جماعية لم يكن أحد يتخيل أن تستمر إلى هذه اللحظة".

أمّا عن وضعها النفسي في الشهور الثلاثة الأولى للعدوان فقد كان صعباً جداً، لكنها تمكنت من أن تتمالك نفسها وتخلق طاقة تنشط بها. تقول لـ"العربي الجديد": "بدأت أتجادل مع ذاتي، وأصبحت أفكّر بإيجابية أكبر بأنّ صوتي مسموعٌ هنا، ولا بدَّ أن أنشر تجربتي من خلال عملي، أنا من تلك المدينة التي عليها كلّ الأعين، أريد أن أبقى صامدة، وأن أروي القصص التي تعودت أن أرويها في بلدي؛ قصص السيدات المناضلات، وكانت هذه الخطوة الأولى".

لا تزال هند تحاول اكتشاف البيئة الفنية الجديدة التي وجدت نفسها فيها دون إرادتها، فمثلاً في نهاية العرض طلبت الفنانتان من الحضور أن يسردوا قصصاً مشابهة، وأن يحكوا تجاربهم عن البيت، أو أن يطرحوا أفكاراً حوله، لكن لم تأت سوى تعليقات قصيرة من هنا وهناك، بينما حاولت الفنانة استنطاق جمهورها بأكثر من طريقة، وهي مشكلة تعاني منها في ألمانيا. تقول: "كانت صدمة بالبداية، الثقافة هنا غريبة، الجمهور لا يتفاعل كثيراً ويشعرك هذا بالإحباط، ولكن أنا مصرّة على خلق جو آخر، ونشر ثقافة أخرى مع الجمهور". 

لا تزال العروض التي تقوم بها الفنانة الفلسطينية محدودة بنوع الحضور وعدده، وذلك لأن إجراءات استصدار أوراقها الثبوتية من دائرة الأجانب لم تتمَّ بعد، لهذا كان الجمهور في كلتا الورشتين من الأصدقاء والمسؤولين عن المكان فحسب، كما أن الإعلان عن عرضها باستخدام اسمها قد يعرض المسرح للمساءلة القانونية.

خسرت بيتاً في الوطن دون أن تستطيع أن تجد بيتاً في الغربة

أما عن سؤال طبيعة بيئة العمل والإنتاج الفني في مناخ قد يُوصف بأنه معادٍ للسردية الفلسطينية، فضَّلت الفنانة عدم التعليق، لكنها أكّدت طبيعتها الاجتماعية، وأنها تستطيع الإعلان عن وجودها بطريقتها الخاصّة؛ الأمر الذي جعل تجاربها الأولى جيدة، وجعلها تكوِّن الكثير من الصداقات من النشطاء والفنانين الذين تعرّفت إليهم ويساعدونها ويحضرون العروض الخاصة التي قامت بها، لكنهم كذلك ينصحونها بطبيعة الموضوعات التي تعمل عليها وتعرضها للجمهور، خصوصاً خلال هذه الفترة، وأن تتحرك في منطقة آمنة. 

تصرّ أبو حسنين على أن الوقت لا يزال مبكراً للحكم على تجربتها في العمل داخل ألمانيا، وتتطلّع للبدء بتحضير عروض مفتوحة للجميع، تستوعب حضوراً أوسع وأكثر تنوّعاً، لتكون صوتاً جديداً من أصوات غزّة، التي تصرّ على سرد الحكاية.

المساهمون