على عكس ما يُشاع من تفسيرٍ لقلّة الدراسات المعنية بالتاريخ البيئي للشرق الأوسط بغياب المصادر اللازمة للبحث، يذهب المؤرّخ الأميركي آلن ميخائيل، في كتابه "في ظلّ شجرة عثمان"، الصادر مؤخّراً عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" بترجمة عبد الرحمن عادل، إلى أنّ الكثير من الدراسات الحديثة قد أثبتت عكس ذلك تماماً. ويستشهد أستاذ التاريخ في "جامعة ييل" الأميركية بوجود سجل وثائقي ضخم، لم يُبحث بعد، حول تفاعلات المصريين مع النيل منذ عام 3000 قبل الميلاد إلى وقتنا الحالي، ووجود العديد من المصادر الأركيولوجية والكتابية من العصور القديمة حول أساليب الإدارة البيئية في الأناضول والهضبة الفارسية وبلاد ما بين النهرين العراقية.
ومستعيناً بالتاريخ البيئي كأداة منهجية، يستكمل ميخائيل، المؤرّخ المهتم بتاريخ الإمبراطورية العثمانية، في هذا الكتاب ما بدأه في دراساته حول التفاعلات بين الشعوب والبيئات في الشرق الأوسط، متّخذاً من الإمبراطورية العثمانية محوراً لدراساته، باعتبارها السلطة السياسية الأقوى والأهم والأطول عمراً في الشرق الأوسط منذ العصور القديمة. ويركّز في هذه الدراسات على مصر تحديداً خلال الخمسمائة سنة الأخيرة، كأهم الولايات العثمانية، والأولى من حيث العائدات، وأكبر مَصْدَر للمواد الغذائية، حيث كانت تاريخياً مركز الإمبراطورية الاقتصادي.
منذ كتابه الأول في هذا الحقل: "الطبيعة والإمبراطورية في مصر العثمانية"، الذي تناول فيه سياسات الري في الريف المصري العثماني، يدافع ميخائيل عن أهمية دراسة التاريخ البيئي، ودوره - إلى جانب حقول أُخرى - في تقديم منظور كلّي جديد لدراسة تاريخ الشرق الأوسط. وقد أكمل هذا المشروع في كتاب لاحق بعنوان "الحيوان في مصر العثمانية" تناول فيه العلاقات بين البشر والحيوان باعتبارها منظوراً لتحليل التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي لمصر العثمانية.
يُقدّم طرحاً مغايراً للنموذج الذي تعتمده الدراسات الغربية
في كتابه "في ظل شجرة عثمان"، يستعمل ميخائيل أدوات التاريخ البيئي في دراسة الإمبراطورية العثمانية لتسليط الضوء على العلاقة بين الطبيعة والسلطة. وينتقد تفسيرات المؤرّخين للأسطورة الشهيرة حول نشأة الإمبراطورية العثمانية، التي خرجت من رحم شجرة؛ حيث تقول الأسطورة إنّ عثمان المنسوب إليه تأسيس الإمبراطورية قد رأى بدراً نزل في صدره ثم خرجت من صلبه شجرة غطّت الأكوان بظلّها، وتحت ظلِّها خرجت من جذوع الجبال أنهار جلبت معها رزق الناس ومعاشهم، وأخذ الناس يشربون ويزرعون ويصنعون الفساقي.
يرى ميخائيل أنّ تفسيرات المؤرّخين تجاهلت أبرز ما في تلك الرؤيا، وأنّ قصة نشأة الإمبراطورية العثمانية التي دُوِّنت في نهاية القرن الخامس، بعد غزو القسطنطينية، أي بعد قرنين من رؤيا عثمان المزعومة، هي بيان جلي يدشّن رمزياً للسيادة السياسية التي وجدت في الموارد الطبيعية سلطاناً يوطّد دعائمها، لأن محورها هو الجانب البيئي. فالأشجار والمياه والجبال والزراعة هي أصل السلطة السياسية للإمبراطورية.
وانطلاقاً من هذه الفكرة، يتناول ميخائيل الريف في مصر العثمانية، ويعتبر أن تشكيل أي فهم للتاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي لمصر يرتبط بطريقة إدارة المياه في البلاد. ويجادل ميخائيل في كتابه بأن الفلاحين المصريين كانوا الفاعل الأهم في سياسة واقتصاد الري بمصر العثمانية، حيث اعتمدت الإمبراطورية على المعلومات التي جمعتها من المزارعين لتنظيم إدارة المياه. وفي هذا السياق، يذكر المؤرخ أمثلة عديدة استطاع فيها الفلاحون المصريون توجيه البيروقراطية العثمانية في إدارة بيئة الري المعقّدة، وإخضاع ديوان الوالي العثماني من أجل الحفاظ على مواردهم المائية، بل وإخضاع السلطان العثماني نفسه في بعض الحالات.
يركّز ميخائيل في كتابه على فكرة أساسية مفادها أن الفلاحين المصريّين أدركوا كيف يمكن استغلال ما قد يلحق بالإمبراطورية العثمانية لصالحهم؛ فغياب الري المناسب سوف يضر بالإنتاج الزراعي، وبالتالي تقل عوائد الضرائب. وخلافاً لما ورد في كثير من الدراسات حول استبداد الحكم العثماني في الريف المصري، يذهب ميخائيل إلى أنّ العلاقة بين العاصمة العثمانية والفلاحين في الريف المصري قد بُنيت على نمط نفعي تبادلي يضمن مجموعة من المصالح على مستوى السياسة والاقتصاد والبنية التحتية.
كان الفلّاحون الفاعل الأهم في سياسة الري بمصر العثمانية
كما يخصّص ميخائيل، في هذا الكتاب أيضاً، قسماً للحيوانات في مصر العثمانية، ودورها في التغيرات التي حدثت على مستوى الاجتماع والاقتصاد والطاقة فيها. ويؤكّد على عدم إمكانية تجاهل دور الحيوان في تلك الحقبة الزراعية التي اعتمدت فيها الإمبراطورية على عمل آلاف البشر والحيوانات في زراعة المواد الغذائية التي كانت تخرج من مصر إلى مختلف أنحاء الإمبراطورية، مشيراً إلى أن تراجع مركزية الحيوانات في الاقتصاد الريفي هو أحد أهم عوامل تحوُّل مصر من اقتصاد الكفاف إلى الزراعي أوائل العصر الحديث إلى اقتصاد يعتمد على الحيازات الكبيرة للأراضي والعمالة البشرية الكثيفة.
لعل أبرز ما يميّز كتاب آلن ميخائيل أنه حين عاد إلى الأرشيف العثماني لم يقتصر بحثه على ذكر وجهة نظر السلطان العثماني من عرشه في إسطنبول، بل ركّز أيضاً على الوثائق المتعلّقة بالفلّاحين المصريّين الغائرة أقدامهم في الطين، على حد تعبيره، فيما يُعرف بـ"كتابة التاريخ من أسفل"، بالإضافة إلى طرحه المغاير لنموذج "المركز - الهامش" الذي تعتمده كثير من الدراسات الغربية، والعربية أيضاً، والتي تقدّم تصوّراً لإمبراطورية تحتكر السلطة في المركز وتتناقص كلّما ابتعدت عن إسطنبول، وهو ما يفتح بدوره آفاقاً جديدة لإعادة النظر إلى تلك المرحلة، بدلاً من الوقوع في ثنائية التسامح الزائد مع العثمانيّين في بلادنا أو العكس.
بطاقة
Alan Mikhail مؤرّخ أميركي من مواليد عام 1979، يعمل أستاذاً للتاريخ في "جامعة ييل" الأميركية. صدر كتابه "تحت ظلّ عثمان" باللغة الإنكليزية عن منشورات "جامعة شيكاغو" عام 2017، وهو ثالث كتبه بعد عملَيه: "الطبيعة والإمبراطورية في مصر العثمانية" (2011)، و"الحيوان في مصر العثمانية" (2014). وقبل أشهر، صدر له كتاب رابع بعنوان "ظلّ الله: السلطان سليم وصناعة العالم الحديث".