لن يأخذ زائرُ معرض "فنّ العيش" ــ الذي يقيمه "المركز الثقافي الكندي" في باريس منذ الثالث عشر من أيار/ مايو الماضي وحتى الحادي والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر المقبل ــ وقتاً طويلاً قبل أن يقع على الروابط التي تجمع بين الفنانات الثلاث المشاركات فيه، رغم أن أسماءهنّ تُحيل إلى ثلاث ثقافات وثلاث بُقَع جغرافية مختلفة.
أوّل هذه الروابط الهجرةُ، والترحال، وثانيها كندا نفسُها. هجرةٌ قادت الفلسطينية جود أبو زينة من الكويت، حيث كانت تعيش عائلتها، إلى كندا؛ هذا البلد نفسُه الذي جاءت إليه سُهيلة أصفهاني من إيران، وشياوجينغ يان من الصين.
لكنّ الرابط الأكثر عمقاً قد يتمثّل في ما يُريد لنا منظّمو المعرض أن نعرفه قبل أيّ شيء آخر، حيث يُخبروننا في مقدّمة الكرّاسة التي خصّصوها له: "إنهنّ يشتركن في إحساسهنّ بهذا الشعور الغريب، المتمثّل في العيش ضمن الـ ما بين، في عدم الانغراس تماماً في المكان، بل في البقاء معلّقاتٍ بين عالمَيْن، معلّقاتٍ على خيطٍ رقيق مصنوع من بعض الرموز الأساسية في ثقافاتهنّ الأمّ. رموزٌ لا يتردّدن في تحويرها رغم ذلك".
لا تحضر الرموز هنا في معناها الاستعجاليّ، الغامض، في بل في إحالتها الأكثر ثقافية والأكثر عُمقاً والأكثر تأثيراً في معيش الناس، أفراداً وجماعات: أي بوصفها أشياء تنعقد من خلالها الصلات الثقافية والاجتماعية. قد تكون هذه الرموز أطباقاً وأوانيَ مملوءةً بالماء، كتلك التي تقترحها، في أكثر من تجهيز، الفنّانة سُهيلة أصفهاني، والتي تُحيل إلى تقاليد شائعةٍ في بلدها، وكذلك في الثقافة العربية، في تزويد العابرين والمسافرين بالماء، من خلال ما يُعرَف بـ"سبيل الماء"، الذي يوضع للمشاع في الأماكن العامة.
تستحضر الفنانات رموزاً ذات حضور وتأثير كبيرين في ثقافاتهنّ الأم
وقد يتمثّل الرمز في معالق البورسلان التي تبني منها شياوجينغ يان تجهيزاً على شكل جسر؛ هذه المعالق شائعة الاستخدام في شرق آسيا والصين، حيث يتجاوز حضورها حيّز الطعام ليصبح تعبيراً عن مشترَك ثقافي بين هذه البلدان. وأيضاً في عالَم الطعام، تقترح جود أبو زودة سلسلةً من الأعمال حول طبق المقلوبة، حيث تقترح مشغولاتٍ وتركيباتٍ دائرية مصغّرة تذكّر بهذا الطبق المعروف في بلاد الشام، كما تستخدم في أحد أعمال السلسلة حبوب الأرزّ والطباعة الرقمية لتكتب كلمة "بيت" (Home)، في إحالةٍ إلى ما قد يعنيه الطعام من أسئلة انتماء وهوية لدى العائلات المهاجرة.
وتشمل الرموز التي تستعديها الفنانات الثلاث أعمالاً ثقافية أقلّ مادّية من الطعام، حيث تصنع سُهيلة أصفهاني لوحاً من الخشب حفرت عليه أغصاناً وطيوراً، مع موتيفات تذكّر بالزخرفات الإسلامية، إن كان في إيران أو العالَم العربي؛ كما تعرض تجهيزاً أشبه بلوحات الحروفيات، تقدّم فيه أبياتاً من شعر ابن الرومي.
وفيما تستخدم جود أبو زينة أضواء النيون لتكتب من خلالها عباراتٍ تحفر عميقاً في الثقافة العربية مثل "كان يا ما كان"، فإنّ شياوجينغ يان تستعيد في تجهيزاتها أثواباً تقليدية صينية، وعناصر من تزيين المنازل في شرق آسيا، إضافة إلى نباتات وأشجار ــ مثل الصفصاف ــ ذات بُعد رمزيّ في الحياة والموروثات الشعبية في بلادها وفي بقاع أُخرى زارتها الفنانة.