ماتياس إينار في "المأدبة السنوية لأخوية حفّاري القبور": من بلدة إلى العالم

17 مايو 2022
ماتياس إينار، 2016 (Getty)
+ الخط -

قد يبدو من غير المألوف أن نبدأ بامتداح الترجمة، لكنّ ترجمة محمد ناصر الدين لرواية ماتياس إينار، "المأدبة السنوية لأخوية حفّاري القبور" (دار الجمل، 2022)، تدعو قارئاً مثلي إلى أن يبدأ من حيث ينتهي الآخرون، أن يدخل من هذا الباب لقراءة نصّ يبدو، في ترجمته، كأنما وُضع في العربية، أو خُلق فيها موازياً للأصل الفرنسي، الأمر الذي اقتضى شغلاً على اللغة، يرقى أحياناً إلى أوابدها، ويبتكر منها وفيها. رواية ماتياس إينار عملُ كاتب، يبدو من وقتٍ أحد ألمع روائيي جيله، بل ومن أكثرهم عكوفاً على عمله، ابتكاراً فيه وتجريباً وذهاباً إلى الأبعد. روايته هذه، التي تتعدّى الخمسمائة صفحة، مثالٌ واضح على ذلك ومصداق له.

هذه الرواية لا تحمل ببساطة تلك التسمية، إنها رواية بقدر ما هي روايات تبني على بعضها بعضاً. إننا نذهب فيها إلى كلّ الاتجاهات، وننتقل بين مواضع وأزمنة ومواقع واستشرافات وزوايا من كلّ صوب، بحيث تتحوّل القراءة المثابرة إلى رحلة موصولة، وإلى سفر في المكان والزمان. في كلّ ذلك تتقاطع مراحل وأجواء وفضاءات وعوالم واتّجاهات. لا تتقاطع فحسب، بل تنبني وتتداخل وتمتدّ وتتكوّن على نحو ملحميّ. نحن هنا إزاء ملحمة معاصرة. ملحمة بقدر ما هي معاصرة، بحيث يصحّ أن نقول إن مطالب وموضوعات وشواغل راهنة اتّخذت هكذا فضاءً ملحمياً، وتعامدت وتداخلت وانبنت كأوديسة راهنة. 

يجعل إينار من التقمّص والتناسخ أسلوباً وشكلاً روائياً

الرواية، كأنما تتعمّد ذلك، تبدأ من أضيق الزوايا وأكثرها عادية. لا تبدأ من باريس التي ينتقل منها البطل إلى بلدة في الجوار يتّخذ منها موضوعاً لأطروحة أنثروبولوجية. نحن هنا إزاء أنثروبولوجي اختار لأطروحته بلدةً في الجوار، وانتقل اليها حيث نتعرّف على أشخاص فيها. إنهم أشخاص يتواترون في أيّ بلدة، ويغدون هدفاً لأنثروبولوجي يدور عليهم وبينهم، بدءاً من مقرّه الذي يسمّيه "الفكر البرّي"، تسمية قد تبدو عنواناً لأطروحة أنثروبولوجية، والأصحّ أنها مستمدّة من كتاب لعالِم أنثروبولوجي هو كلود ليفي ستروس. "الفكر البرّي" بيتُ الأنثروبولوجي الذي يجعله في صحبة سيّدة من البلدة؛ مع هذه السيدة سنتعرّف على أصحاب مهن عدّة: مزارعين وصاحب حانة وصانع توابيت وأيضاً رسّام.

غلاف ماتياس إينار - القسم الثقافي
غلاف الرواية

لكلّ من هؤلاء صنعته وشخصيته وعلاقته الخاصّة بالأنثروبولوجي. لكنّ الأمر ليس فقط هنا، إنه يتّصل بفانتازيا التقمّص والتناسل. يُسرع ماتياس إينار إلى هذا الموضوع، لا يطرحه كعقيدة ولا يتوقّف عنده وعند نظريّاته. يتقصّد بالتأكيد ألّا يفعل ذلك، هو الذي يتبحّر عادةً في شتّى الموضوعات. إنه هكذا يبني على التناسخ والتقمّص، يجعل منهما ليس أكثر من حيلة فانتازية، يجعل منهما فقط أسلوباً وشكلاً روائياً، لكنّ هذا يتيح للروائي أن ينتقل من المكان الراهن والعادي إلى فضاءات أوسع، أزمنة وأمكنة أخرى. شخصياته الراهنة جاءت إلى الحياة ووراءها حيوات عدّة، تعبر التاريخ وتنقلنا قروناً إلى الخلف، كما أنها تنتقل بعد وفاتها إلى حيوات أخرى جديدة. حيوات هذه الشخصيات الماضية واللاحقة تتعدّد، من جنرال ومحارب إلى بقّة تلدغ بونابرت. مع ذلك، أو لذلك، فإن الرواية لا تبقى هكذا في البلدة. 

إنها تستولي على الماضي كلّه وعلى التاريخ. هكذا نطلّ من البلدة على الزمن كلّه، ويغدو زمان الرواية هو تاريخ البشرية. يغدو هذا التاريخ، بحروبه وحوادثه وتطوّراته، موضع بحث أرشيفي. فالروائي، وهو يعمل على التاريخ، يقوم بمهمّة المؤرّخ، ونلجأ أيضاً إلى بحث الأنثروبولوجيّ، وإلى جانبه أرشيفاتٌ شتّى. 

نحن هنا أمام الثقافة وقد تحوّلت أيضاً إلى فضاء روائيّ، إلى ملحمة وهي تقوم على بحث أنثروبولوجي. بل نحن هكذا نبدأ من هذه البلدة الصغيرة لنطلّ ليس فقط على التاريخ، ولكنْ أيضاً على العالم. هكذا نجد أرشيف الزراعة وأرشيف الصيد وأرشيف الحروب. هكذا نجد الرواية، في النهاية، تتّخذ منحى إيكولوجياً، فالمؤرّخ والأنثروبولوجي يعود من سفره التاريخي، يعود من جولته في العالم ليصبح مزارعاً. نشعر أنّ هذا ليس بدون قصد، إنّه نوع من دعوة بيئية.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون