في أواخر عام 1969، وقفت مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين في ملجأ تحت الأرض لحضور فيلم "لا للحل السلمي"، من إخراج مصطفى أبو علي (1940 – 2009)، وهو عمل اعتبر أول فيلم يقدّم صورة عن العمل المسلح الذي بدأ قبل عدّة سنوات.
ورغم أن الفيلم احتوى نواقص فنية عدّة، إلا أنه يعتبر إلى اليوم عملاً مؤسساً في السينما الفلسطينية. وثّق أحد المشاركين في إنجاز هذا الفيلم، هاني جوهرية (1939 – 1976)، تلك الحادثة في إحدى مقالاته معبراً عن رؤيته لدور السينما، فقد ترجم هذا الفيلم صراحة رفضه لمبادرة روجرز التي كانت تقضي بتوقّف المقاومة وبدء المفاوضات بين مصر و"إسرائيل".
طوال مسيرته، استطاع جوهرية أن يوظّف الإمكانيات القليلة التي توفّرت لدى رفاق السلاح، آنذاك، لتقديم سينما توثّق النضال الفلسطيني. ضمن هذه المحاولة لإنتاج سينما بما هو متوفّر، يشار إلى أنه قد عُثر على أحد دفاتره الذي تضمّن منهاجاً لتعليم التصوير السينمائي للثوار المصابين الذين لا يمكنهم مواصلة القتال، وكان يضع فيه حلولاً وبدائل عديدة عن التقنيات والأدوات التي لم تكن متاحة لهم حينها.
حول تفاصيل مثل هذه من حياة جوهرية، صدر مؤخراً كتاب "الكاميرا تشرق من القدس.. هاني جوهرية (مسيح الثورة)"، عن "هبة ناشرون وموزّعون" للكاتب سليم النجار، وهو عمل يوثّق فيه من خلال شهادات بعض أفراد أسرته والمقرّبين من الأصدقاء والكتّاب والمثقفين، سيرة بدأت في حواري البلدة القديمة في القدس واختتمت بالاستشهاد على تلال عينطورة في جبل لبنان.
في تقديم العمل، يعود الصحافي محمد محمود البشتاوي إلى مقالة للفنان الفلسطيني فلاديمير تماري يتذكر فيها جوهرية، وهو مقال يشير فيه كاتبه إلى مدينة القدس كنواة أولى دفعت بهاني جوهرية نحو مسار التصوير. يقول تماري: "كان من أصدقائه المخرج المسرحي والسينمائي سمير فرح، الذي صوّر له هاني عدة أفلام ساخرة وفكاهية في منزله بالقدس (تمثيل تماري)، وهنالك الفنان التشكيلي والرسّام كمال بُلّاطه...".
ويشير أيضاً في سياق مقاربته لحركة التصوير في فلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر، إلى أن تجربته لم تقتصر على التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، وإنما تشمل أيضاً مساهمات في تصميم ملصقات مطبوعةٍ للثورة الفلسطينية.
يرصد النجار ثلاث مراحل إبداعية في حياة الفنان الراحل؛ الأولى تأثره بالبيئة المصرية عندما ذهب لدراسة التصوير السينمائي في "المعهد العالي للسينما" في القاهرة العام 1964، والثانية عندما انتقل إلى لندن لدراسة التصوير، والمرحلة الثالثة من حياته، تتمثل في عملهِ في وزارة الإعلام الأردنية، وصولاً إلى الاستقالة منها لاحقاً، من أجل التفرّغ مصوّراً لدى قوات الثورة الفلسطينية.
من جهته، يعود المخرج صلاح أبو هنود في شهادته إلى مارس/ آذار عام 1968، حين ذهب مع هاني جوهرية إلى معركة الكرامة في سيارة من التلفزيون الأردني، وقد تعرّضت السيارة لقصف من الطيران الإسرائيلي وأصيب سائقها إصابة بالغة، ولم يتمكن من الوصول إلى أرض المعركة سوى جوهرية الذي صوّر أحداثها كاملة.
أما الشاعر عز الدين المناصرة، فيعود إلى يومٍ كان يسير فيه بالصدفة في الشارع الذي كانت تقع فيه وكالة الأنباء الفلسطينية في بيروت في سبعينيات القرن الماضي، وهناك توقّفت سيارة إسعاف أمام مكتب الإعلام الموحّد فاقترب مستفسراً عن الجثمان الذي تُنزله منها مجموعة شبّان، ليعلم أنه لهاني جوهرية.
ويستذكر الناقد السينمائي عدنان مدانات معرفته بالراحل التي تعود إلى عام 1975، لافتاً إلى أن الصور الشهيرة التي بثّتها وكالات الأنباء لمشاهد النزوح الفلسطيني إلى الأردن عقب هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967، كانت من عدسة جوهرية، الذي يعيده إلى ثلاث حالات شهدها في حياته لمصوّر يمضي في عمله حتى يموت ماسكاً بالكاميرا وقد سجّل تلك النهاية بالصورة، وهو ما حصل تماماً مع المصوّر السينمائي الفلسطيني حين لم يكترث لتحذيرات رفاقه في الحادي عشر من إبريل/ نيسان عام 1976 قبيل أن تسقط عليه قنبلة بلحظات ويستشهد على أثرها.
ويكتب عادل الكسبة شهادته عن صديقه من خلال رواية لحظة مهمة في اختبار مشاعر المصوّر وأحاسيسه، وذلك حين قام هاني جوهرية بتصوير معركة الحمّة بالقرب من مثلث الحدود السورية الفلسطينية الأردنية، وهي معركة خسرها الفدائيون عام 1968. يشير الكبسة إلى أن جوهرية بدا متماسكاً قوياً مؤمناً باحتمالية الربح والخسارة على طريق الثورة الذي يجب أن يكتمل.
يروي شقيقه رياض في شهادته تفاصيل من طفولة هاني تعود إلى مدينة القدس، حيث كان شغوفاً بالقراءة واقتنى أول كاميرا روسية الصنع عام 1956، وكيف تعلّم فنون تحميض الصور في بيته، ثم عمل بعد عامين مدرّساً للغة الإنكليزية في مدرسة المطران المقدسية لعام أو عامين، ليلتحق بعدها بمعهد الفنون في القاهرة لدراسة التصوير، ثم حصل على منحة دراسة لاستكمال دراسته في إنكلترا من قبل وزارة الإعلام الأردنية، وكان من أوائل السينمائيين آنذاك.
ويسجّل صديقه منذر الجلاد ذكرياتهما على مقاعد الدراسة بين عامي 1952 و1958، حين كانا يترددان على مقاهي إكسبرس وخضر وغيرهما، وقاعات سينما الحمراء والنزهة والقدس، وكان جوهرية مهتماً جداً بحضور الأفلام بمختلف أنماطها، إضافة إلى اطلاعه الواسع واجتهاده الدراسي.
وفي شهادته، يشير القاص رسمي أبو علي إلى أن أهمية جوهرية تكمن في استطاعته تصوير الجانب الجذاب والإنساني المشرّف للثورة الفلسطينية، مشيراً إلى أن صوره كانت قد انتشرت بشكل لافت في البلدان الأوروبية بسبب جمالها وبراعتها، وجذبت عدداً من اليساريين والإنسانيين للتضامن مع الثورة الفلسطينية باعتبارها ثورة تنتصر للحقوق البشرية العامة، ومشروع حركة تحرر وطني، وليست ثورة إرهابية كما كانت تروّج لذلك وسائل الدعاية الصهيونية في أوروبا.