08 نوفمبر 2019
حل المؤتمر الوطني السوداني... رغبة جماهيرية أم إملاء خارجي؟
هناك في علم التمويل ما يعرف بـ(Special Purpose Vehicle SPV)، وهو ما ترجمته "القاطرة ذات الغرض المحدد". وهي عبارة عن جهة ذات استقلالية قانونية -اسم عمل أو شركة ذات شخصية مستقلة- يتم تكوينها بواسطة عدد من الشركاء الذين هم بصدد الدخول في شراكة محددة لتنفيذ مشروع محدد. ومن ثم يتم في العادة حل هذا الـSPV فور انتهاء المشروع أو بنهاية الشراكة. وعليه فإن إنشاء الـSPV ليس هدفاً في حد ذاته، وإنما وسيلة لتحقيق هدف محدد.
إذا تصورنا إمكانية قيام "قاطرة ذات غرض محدد" لخدمة غرض سياسي معين (political SPV)، فإن المؤتمر الوطني ينطبق عليه وبامتياز هذا التصور الذهني المتوهم. فهو ليس كياناً سياسياً أصيلاً صاحب أفكار أصيلة، وإنما جسم سياسي أنشئ في ظروف معينة ليمثل رافعة سياسية تحشد وتستوعب أكبر قدر من السياسيين -المغادرين لأحزابهم القديمة- وقيادات الإدارة الأهلية والمتصوفة والتجار والصناع والشباب والمرأة وأهل الفن والرياضة بل وحتى القساوسة ورجال الدين المسيحي.
اقتضت الفكرة إذن استيعاب هذا الكم من القيادات والشخصيات غير المتجانسة في جسم جديد أريد له أن يكون "الوعاء الجامع لأهل السودان"؛ وهو تنظير يخالف أبجديات الممارسة الديمقراطية الغربية. ظنت الحركة الإسلامية أنها عبر كيانها الوليد ستتجاوز العصبيات السياسية وستحصل على الشرعية السياسية عبر الزخم الذي يوفره البناء الحديث -وهذا ما تحقق، على الأقل في حده الأدنى.
لكن القوى الجديدة الوافدة جاءت بتطلعاتها وأطماعها وثقافتها، وهو الشيء الذي لم يرض طموح عضوية الحركة. ثم أن قسمة السلطة والثروة بين القدامى والقادمين خلقت نوعًا من الشك المتبادل والصراع الخفي، تطور الأمر إلى خلاف بيّن، بين أعضاء الحركة الأصليين والذين حاولوا الاستفادة من القادمين الجدد في خلق مراكز قوى ذات طموحات متباينة.
واستطاع البشير استغلال هذا الصراع بين مراكز القوة لصالحه، بل أنه أتقن فن العزف على التناقضات. خلاصة القول إن المؤتمر الوطني أعطى زخماً كبيراً للمشروع السياسي للإنقاذ، لكنه لم يرض طموح وأشواق أصحاب المشروع الأصليين "hardliners"؛ حتى أصبح تصنيف "مؤتمر وطني" نوعاً من أنواع التندر بين عضوية الحركة، يطلقونه على من يظهر حرصًا على مصالحه الخاصة.
على مستوى الشارع العام، فإن ذات الصورة القاتمة للمؤتمر الوطني قد انتشرت مع فارق جوهري، وهو أن كافة أعضاء المؤتمر الوطني (بمن فيهم أعضاء الحركة الأصيلة) هم أصحاب مصالح شخصية ونوايا وضيعة. وساهمت في ذلك عدة عوامل منها:
1. ملفات الفساد الصادمة التي كان أبطالها أعضاءً بارزين في المؤتمر الوطني والتي ظلت قيادته تتستر عليها رغم فداحتها.
2. الامتيازات غير المقبولة التي كان يحصل عليها أعضاء المؤتمر (سواء عبر التوظيف أو غيره) والتي أحدثت نقلة بالزانة في أوضاعهم المعيشية.
3. المؤسسات الشبابية والطلابية التي قدمت أسوأ النماذج في استغلال الأموال والامتيازات من قبل شباب أحداث لا خبرة لهم سوى الانتماء المتوهم.
كل هذه الأسباب (وغيرها) ساهمت في خلق جفاء بين الجماهير وهذه الشجرة التي مثلت لهم نبتاً شيطانياً، وعملاً غير صالح. وقناعتي الشخصية أن المؤتمر الوطني لم يكن سوى PSPV لتنفيذ أهداف سياسية، وقد استنفذ أغراضه التي أنشئ من أجلها واستحال الى فكرة مجهدة exhausted idea. وكان الأجدر بقيادات الوطني أن يقوِّموا كيانهم ويعمدوا إلى صيانته وتطهيره، لكن الأمر أعجزهم وأعياهم حتى أصبح الكيان مرتبطاً في الأذهان بالشهوة والفساد (شباب حول الرئيس نموذجاً).
قبل عام ونيف؛ نشرت مقالاً تناولت فيه مفهوم "خطة التخارج Exit Plan"، وهي فكرة مشهورة في عالم البورصات والاستثمار. بيد أني حاولت تطبيق الفكرة على عالم السياسة.
خلصت في مقالي إلى أنه على قادة المؤتمر الوطني البحث عن "خطة خروج Exit Plan" فالحقيقة التي لا تقبل التشكيك هي أن المؤتمر الوطني قد مات سريريًا واستنفد كل أغراضه، وأن نهاية الرئيس البشير مسألة زمن ليس إلا. كان بإمكان قادة المؤتمر الوطني أن يقودوا زمام المبادرة ويقرروا مصيرهم بأنفسهم؛ لكنهم تباطؤا حتى جاء الأمر من الخارج.
وأنا لا أزعم هنا أن دور الحركة الإسلامية قد انتهى بنهاية المؤتمر الوطني؛ بل أحسب أن الظروف ربما خدمتها بالتخلص من أثقال وتبعات ذلك الجسم المعطوب. فالفرصة الآن مؤاتية لمراجعة التجارب والخروج عبر ثوب بديل وخطاب جديد بدلًا عن التباكي على الشجرة المجثوثة.
في حلقة حوارية نظمتها الـAtlantic Council الشهر الماضي في واشنطن خاطبها الوزير إبراهيم البدوي، نبه المبعوث الأميركي للسودان السفير دونالد بوث إلى أن الحكومة الحالية يجب عليها حل المؤتمر الوطني.
لكن السفير بوث لم يتوقف عند هذا الحد، بل مضى ليفجر مفاجأة من العيار الثقيل عندما ربط بين تجنيد الأطفال -في إشارة الى قوات الدعم السريع في اليمن- وعدم رفع السودان من قائمة الإرهاب.
ما لفت انتباهي هو أن الوزير البدوي لم يحاول الدفاع عن قوات الدعم السريع؛ بل لاذ بالصمت الذي قد يفهم منه الإقرار. على صعيد متصل أجرت إذاعة الـNPR الأميركية لقاء إذاعيًا مع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك خلال زيارته الحالية لواشنطن؛ شنت فيه هجوماً عنيفاً على قوات الدعم السريع -وقائدها الفريق حميدتي-. وأبرز ما جاء في الحوار هو تعهد حمدوك بمقاضاة ومحاسبة الفريق حميدتي وقواته حال ثبوت تورطهم في أعمال فض اعتصام القيادة.
المحصلة التي خرجت بها بعد حضور جلسة الـAtlantic Council ولقاء الـNPR هي أن الضحية القادمة ربما كانت قوات الدعم السريع؛ وأن الولايات المتحدة تضع المؤتر الوطني والدعم السريع في نفس الخانة. فهل يستفيد الدعم السريع من خطأ المؤتمر الوطني ويقوم بالبحث عن خطة مقبولة للخروج الآمن Secured Exit Plan.
إذا تصورنا إمكانية قيام "قاطرة ذات غرض محدد" لخدمة غرض سياسي معين (political SPV)، فإن المؤتمر الوطني ينطبق عليه وبامتياز هذا التصور الذهني المتوهم. فهو ليس كياناً سياسياً أصيلاً صاحب أفكار أصيلة، وإنما جسم سياسي أنشئ في ظروف معينة ليمثل رافعة سياسية تحشد وتستوعب أكبر قدر من السياسيين -المغادرين لأحزابهم القديمة- وقيادات الإدارة الأهلية والمتصوفة والتجار والصناع والشباب والمرأة وأهل الفن والرياضة بل وحتى القساوسة ورجال الدين المسيحي.
اقتضت الفكرة إذن استيعاب هذا الكم من القيادات والشخصيات غير المتجانسة في جسم جديد أريد له أن يكون "الوعاء الجامع لأهل السودان"؛ وهو تنظير يخالف أبجديات الممارسة الديمقراطية الغربية. ظنت الحركة الإسلامية أنها عبر كيانها الوليد ستتجاوز العصبيات السياسية وستحصل على الشرعية السياسية عبر الزخم الذي يوفره البناء الحديث -وهذا ما تحقق، على الأقل في حده الأدنى.
لكن القوى الجديدة الوافدة جاءت بتطلعاتها وأطماعها وثقافتها، وهو الشيء الذي لم يرض طموح عضوية الحركة. ثم أن قسمة السلطة والثروة بين القدامى والقادمين خلقت نوعًا من الشك المتبادل والصراع الخفي، تطور الأمر إلى خلاف بيّن، بين أعضاء الحركة الأصليين والذين حاولوا الاستفادة من القادمين الجدد في خلق مراكز قوى ذات طموحات متباينة.
واستطاع البشير استغلال هذا الصراع بين مراكز القوة لصالحه، بل أنه أتقن فن العزف على التناقضات. خلاصة القول إن المؤتمر الوطني أعطى زخماً كبيراً للمشروع السياسي للإنقاذ، لكنه لم يرض طموح وأشواق أصحاب المشروع الأصليين "hardliners"؛ حتى أصبح تصنيف "مؤتمر وطني" نوعاً من أنواع التندر بين عضوية الحركة، يطلقونه على من يظهر حرصًا على مصالحه الخاصة.
على مستوى الشارع العام، فإن ذات الصورة القاتمة للمؤتمر الوطني قد انتشرت مع فارق جوهري، وهو أن كافة أعضاء المؤتمر الوطني (بمن فيهم أعضاء الحركة الأصيلة) هم أصحاب مصالح شخصية ونوايا وضيعة. وساهمت في ذلك عدة عوامل منها:
1. ملفات الفساد الصادمة التي كان أبطالها أعضاءً بارزين في المؤتمر الوطني والتي ظلت قيادته تتستر عليها رغم فداحتها.
2. الامتيازات غير المقبولة التي كان يحصل عليها أعضاء المؤتمر (سواء عبر التوظيف أو غيره) والتي أحدثت نقلة بالزانة في أوضاعهم المعيشية.
3. المؤسسات الشبابية والطلابية التي قدمت أسوأ النماذج في استغلال الأموال والامتيازات من قبل شباب أحداث لا خبرة لهم سوى الانتماء المتوهم.
كل هذه الأسباب (وغيرها) ساهمت في خلق جفاء بين الجماهير وهذه الشجرة التي مثلت لهم نبتاً شيطانياً، وعملاً غير صالح. وقناعتي الشخصية أن المؤتمر الوطني لم يكن سوى PSPV لتنفيذ أهداف سياسية، وقد استنفذ أغراضه التي أنشئ من أجلها واستحال الى فكرة مجهدة exhausted idea. وكان الأجدر بقيادات الوطني أن يقوِّموا كيانهم ويعمدوا إلى صيانته وتطهيره، لكن الأمر أعجزهم وأعياهم حتى أصبح الكيان مرتبطاً في الأذهان بالشهوة والفساد (شباب حول الرئيس نموذجاً).
قبل عام ونيف؛ نشرت مقالاً تناولت فيه مفهوم "خطة التخارج Exit Plan"، وهي فكرة مشهورة في عالم البورصات والاستثمار. بيد أني حاولت تطبيق الفكرة على عالم السياسة.
خلصت في مقالي إلى أنه على قادة المؤتمر الوطني البحث عن "خطة خروج Exit Plan" فالحقيقة التي لا تقبل التشكيك هي أن المؤتمر الوطني قد مات سريريًا واستنفد كل أغراضه، وأن نهاية الرئيس البشير مسألة زمن ليس إلا. كان بإمكان قادة المؤتمر الوطني أن يقودوا زمام المبادرة ويقرروا مصيرهم بأنفسهم؛ لكنهم تباطؤا حتى جاء الأمر من الخارج.
وأنا لا أزعم هنا أن دور الحركة الإسلامية قد انتهى بنهاية المؤتمر الوطني؛ بل أحسب أن الظروف ربما خدمتها بالتخلص من أثقال وتبعات ذلك الجسم المعطوب. فالفرصة الآن مؤاتية لمراجعة التجارب والخروج عبر ثوب بديل وخطاب جديد بدلًا عن التباكي على الشجرة المجثوثة.
في حلقة حوارية نظمتها الـAtlantic Council الشهر الماضي في واشنطن خاطبها الوزير إبراهيم البدوي، نبه المبعوث الأميركي للسودان السفير دونالد بوث إلى أن الحكومة الحالية يجب عليها حل المؤتمر الوطني.
لكن السفير بوث لم يتوقف عند هذا الحد، بل مضى ليفجر مفاجأة من العيار الثقيل عندما ربط بين تجنيد الأطفال -في إشارة الى قوات الدعم السريع في اليمن- وعدم رفع السودان من قائمة الإرهاب.
ما لفت انتباهي هو أن الوزير البدوي لم يحاول الدفاع عن قوات الدعم السريع؛ بل لاذ بالصمت الذي قد يفهم منه الإقرار. على صعيد متصل أجرت إذاعة الـNPR الأميركية لقاء إذاعيًا مع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك خلال زيارته الحالية لواشنطن؛ شنت فيه هجوماً عنيفاً على قوات الدعم السريع -وقائدها الفريق حميدتي-. وأبرز ما جاء في الحوار هو تعهد حمدوك بمقاضاة ومحاسبة الفريق حميدتي وقواته حال ثبوت تورطهم في أعمال فض اعتصام القيادة.
المحصلة التي خرجت بها بعد حضور جلسة الـAtlantic Council ولقاء الـNPR هي أن الضحية القادمة ربما كانت قوات الدعم السريع؛ وأن الولايات المتحدة تضع المؤتر الوطني والدعم السريع في نفس الخانة. فهل يستفيد الدعم السريع من خطأ المؤتمر الوطني ويقوم بالبحث عن خطة مقبولة للخروج الآمن Secured Exit Plan.