09 ديسمبر 2019
الاقتصاد العالمي... التعاون بديلاً من الهيمنة
خلصت دراسة قام بها عدد من الأستاذة والباحثين في كبريات كليات العلوم الإدارية الأميركية لواقع الاقتصاد الأميركي، إلى أن عام 2019 شهد تراجعاً ملحوظاً في نمو الاقتصاد الأميركي، وأن العقوبات التجارية التي اتخذها الرئيس ترامب ضد إيران والصين - وتلك التي لوّح بها في وقت ما ضد تركيا، والتي تعرضت لها الهند جراء علاقاتها التجارية مع إيران - أثرت سلباً بالاقتصاد الأميركي. وختمت الدراسة برسالة قوية للرئيس ترامب، مفادها أنّ "شفرة النجاح في عالم اليوم هي التعاون بين الأمم؛ فحاجتنا لاستثمارات وموارد الدول لا تقلّ عن حاجتهم لمنتجاتنا وتقنياتنا".
هذه الروح الرافضة لسياسة الرئيس لا تُعَدّ غريبة عن المؤسسة الأكاديمية الأميركية؛ فقد ظلت تحتفظ باستقلالية مطلقة وتتمتع بمنهج مستقل في التفكير والتقييم، حتى إن مؤسسة الرئاسة - ومؤسسات الدولة الأخرى - ظلت تنظر بإيجابية إلى هذه الاستقلالية؛ فهي توفر مصدراً مستقلاً للمعلومة ووسيلة فعالة لقياس الرأي وتلمّس الموقف المخالف، بل إن المؤسسات الحكومية تموّل هذه الدراسات والبحوث الأكاديمية وتستهدي وتسترشد بها، وإن جاءت مخالفة ورافضة لسياسات الرئيس.
مثّل سوق العقار الأميركي إحدى الوجهات المفضلة لدى صغار المستثمرين الصينيين. فالانخفاض الحاد في أسعار الوحدات السكنية في أعقاب أزمة 2008 مثّل فرصة ذهبية، ودفع مئات الآلاف منهم إلى استثمار مدخراتهم في شراء تلك العقارات منخفضة الثمن، مراهنين على التوقعات متوسطة وبعيدة الأمد، التي أشارت حينها إلى أن الأسعار لا بد لها من الصعود - وقد كان - ومنذ ذلك التاريخ نشطت ظاهرة شراء العقارات من قبل الصينيين في مختلف المدن الأميركية (لوس أنجلس، هيوستن، سان فرانسيسكو، أوستن، دالاس، فينيكس، شيكاغو، لاس فيغاس... إلخ)، بل إن هذه الشهية المفتوحة ساهمت في زيادة الأسعار السنوية Annual Appreciation Rate، الشيء الذي سرّع من وتيرة تعافي الاقتصاد الأميركي.
بيد أن عام 2019 شهد تدهوراً ملحوظاً في هذه النسبة، إلى الحد الذي جعل الأسعار شبه ثابتة، مقارنة بالعام السابق في بعض المدن مثل هيوستن. وبحسب الدراسة، فإن قلق المستثمر الصيني من مستقبل العلاقات التجارية بين الصين وأميركا - إثر العقوبات التجارية التي بدأت إدارة ترامب تلوّح بها منذ عام 2018 - أفقده شهية الاستثمار في سوق العقار، الأمر الذي أثر بمعادلة العرض والطلب Supply and Demand، ونتج من ذلك تباطؤ في الزيادة السنوية للأسعار.
أما كبار المستثمرين الصينيين - بمن فيهم الحكومة الصينية - فبصمتهم في الاقتصاد الأميركي حاضرة أيضاً، فهم يهيمنون على سوق السندات الأميركية التي يصدرها الاحتياطي الفدرالي. فإذا كانت روسيا قد سيلت جزءاً مقدراً من احتياطاتها من العملة وشهادات الاستثمار الأميركية واستبدلتها بشراء الذهب؛ فإن الصين لا تزال تحتفظ بمبالغ ضخمة من العملة الأميركية.
قمت بزيارة جامعة كارنيغي ميلون في ولاية بنسلفانيا، وهي من أعرق الجامعات في الشرق الأميركي (الايفي ليغ)، ورغم أن القبول لها متاح للجميع، إلا أن رسومها الدراسية الباهظة تجعلها شبه محتكرة على أبناء النخب الثرية.
إحدى الظواهر التي تسترعي انتباه الزائر لمقرّ الجامعة في بيتسبرغ، هي الأعداد الهائلة للطلاب الأجانب، حتى إنك لا تكاد تلحظ وجوداً للطلاب الأميركيين (البيض، الأفارقة، وحتى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين).
بعد تطوافي على ساحات الجامعة وقاعات الدرس، والمراكز التجارية، وحتى ملاعب كرة القدم، انتابني إحساس بأنني أتجول في إحدى الجامعات الصينية - وذلك للعدد الهائل من الطلاب الصينيين مع وجود ملحوظ للطلاب الهنود، وعدد قليل من الطلاب العرب ميسوري الحال الذين لا تمثل لهم رسومها الباهظة عقبة، بل إن الجامعة كثيراً ما تخفف لهم من شروط القبول طمعاً بتبرعات دولهم السخية. غنيّ عن الذكر أن هؤلاء الطلاب الأجانب لا يحركون اقتصاد الجامعة فقط من خلال مصاريف الدراسة الباهظة التي يدفعونها، بل إنهم يوفرون فرص عمل للآلاف من سكان مدينة بيتسبرغ وما جاورها من المدن.
دعونا الآن ننظر إلى الجانب الآخر من المعادلة. تشير التقارير إلى أن الأداء الفصلي لعدد من كبريات الشركات الأميركية، شهد تراجعاً. فمبيعات ستاربكس وأبل ونايكي شهدت تراجعاً كبيراً في السوق الصيني بسبب النظرة السلبية للمستهلك الصيني والعقبات التي بدأت تفرضها الحكومة الصينية على الشركات الأميركية. وغنيٌّ عن القول أن السوق الصيني يشكل أهم الأسواق لهذه الشركات؛ وذلك للشعبية الكبيرة لمنتجاتها في الصين. وهذه إشارة هامة أن الصين لم تعد تمثل مصدراً للعمالة الرخيصة، فهي تعد اليوم سوقاً شرهاً يلتهم المنتجات والماركات الأميركية. على صعيد آخر، مُني منتجو فول الصويا في أميركا بخسائر فادحة هذا العام؛ ذلك أن أهم أسواقهم (الصين) فرضت عليهم رسوماً إضافية، ما أفقدهم التنافسية.
عند الربط بين الدراسة التي افتتحنا بها التدوينة، والمشاهدات التي وردت، يمكن التوصل إلى نفس النتيجة "الاقتصاد الأميركي لم يعد مستقلاً عن نظيره الصيني". إن الهيمنة المطلقة التي كانت تتيح للإدارة الأميركية فرض العقوبات على الدول والمؤسسات، لم تعد موجودة على أرض الواقع بنمطها القديم.
ولا شك في أن التفوق الاقتصادي والعسكري الأميركي ما زال قائماً، ما يمكن الرئيس ترامب من معاقبة الصين وفرض عقوبات على غيرها من الدول. لكن هذه العقوبات ستكون باهظة الثمن، بل ومؤثرة في المواطن الأميركي.
هذه الروح الرافضة لسياسة الرئيس لا تُعَدّ غريبة عن المؤسسة الأكاديمية الأميركية؛ فقد ظلت تحتفظ باستقلالية مطلقة وتتمتع بمنهج مستقل في التفكير والتقييم، حتى إن مؤسسة الرئاسة - ومؤسسات الدولة الأخرى - ظلت تنظر بإيجابية إلى هذه الاستقلالية؛ فهي توفر مصدراً مستقلاً للمعلومة ووسيلة فعالة لقياس الرأي وتلمّس الموقف المخالف، بل إن المؤسسات الحكومية تموّل هذه الدراسات والبحوث الأكاديمية وتستهدي وتسترشد بها، وإن جاءت مخالفة ورافضة لسياسات الرئيس.
مثّل سوق العقار الأميركي إحدى الوجهات المفضلة لدى صغار المستثمرين الصينيين. فالانخفاض الحاد في أسعار الوحدات السكنية في أعقاب أزمة 2008 مثّل فرصة ذهبية، ودفع مئات الآلاف منهم إلى استثمار مدخراتهم في شراء تلك العقارات منخفضة الثمن، مراهنين على التوقعات متوسطة وبعيدة الأمد، التي أشارت حينها إلى أن الأسعار لا بد لها من الصعود - وقد كان - ومنذ ذلك التاريخ نشطت ظاهرة شراء العقارات من قبل الصينيين في مختلف المدن الأميركية (لوس أنجلس، هيوستن، سان فرانسيسكو، أوستن، دالاس، فينيكس، شيكاغو، لاس فيغاس... إلخ)، بل إن هذه الشهية المفتوحة ساهمت في زيادة الأسعار السنوية Annual Appreciation Rate، الشيء الذي سرّع من وتيرة تعافي الاقتصاد الأميركي.
بيد أن عام 2019 شهد تدهوراً ملحوظاً في هذه النسبة، إلى الحد الذي جعل الأسعار شبه ثابتة، مقارنة بالعام السابق في بعض المدن مثل هيوستن. وبحسب الدراسة، فإن قلق المستثمر الصيني من مستقبل العلاقات التجارية بين الصين وأميركا - إثر العقوبات التجارية التي بدأت إدارة ترامب تلوّح بها منذ عام 2018 - أفقده شهية الاستثمار في سوق العقار، الأمر الذي أثر بمعادلة العرض والطلب Supply and Demand، ونتج من ذلك تباطؤ في الزيادة السنوية للأسعار.
أما كبار المستثمرين الصينيين - بمن فيهم الحكومة الصينية - فبصمتهم في الاقتصاد الأميركي حاضرة أيضاً، فهم يهيمنون على سوق السندات الأميركية التي يصدرها الاحتياطي الفدرالي. فإذا كانت روسيا قد سيلت جزءاً مقدراً من احتياطاتها من العملة وشهادات الاستثمار الأميركية واستبدلتها بشراء الذهب؛ فإن الصين لا تزال تحتفظ بمبالغ ضخمة من العملة الأميركية.
قمت بزيارة جامعة كارنيغي ميلون في ولاية بنسلفانيا، وهي من أعرق الجامعات في الشرق الأميركي (الايفي ليغ)، ورغم أن القبول لها متاح للجميع، إلا أن رسومها الدراسية الباهظة تجعلها شبه محتكرة على أبناء النخب الثرية.
إحدى الظواهر التي تسترعي انتباه الزائر لمقرّ الجامعة في بيتسبرغ، هي الأعداد الهائلة للطلاب الأجانب، حتى إنك لا تكاد تلحظ وجوداً للطلاب الأميركيين (البيض، الأفارقة، وحتى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين).
بعد تطوافي على ساحات الجامعة وقاعات الدرس، والمراكز التجارية، وحتى ملاعب كرة القدم، انتابني إحساس بأنني أتجول في إحدى الجامعات الصينية - وذلك للعدد الهائل من الطلاب الصينيين مع وجود ملحوظ للطلاب الهنود، وعدد قليل من الطلاب العرب ميسوري الحال الذين لا تمثل لهم رسومها الباهظة عقبة، بل إن الجامعة كثيراً ما تخفف لهم من شروط القبول طمعاً بتبرعات دولهم السخية. غنيّ عن الذكر أن هؤلاء الطلاب الأجانب لا يحركون اقتصاد الجامعة فقط من خلال مصاريف الدراسة الباهظة التي يدفعونها، بل إنهم يوفرون فرص عمل للآلاف من سكان مدينة بيتسبرغ وما جاورها من المدن.
دعونا الآن ننظر إلى الجانب الآخر من المعادلة. تشير التقارير إلى أن الأداء الفصلي لعدد من كبريات الشركات الأميركية، شهد تراجعاً. فمبيعات ستاربكس وأبل ونايكي شهدت تراجعاً كبيراً في السوق الصيني بسبب النظرة السلبية للمستهلك الصيني والعقبات التي بدأت تفرضها الحكومة الصينية على الشركات الأميركية. وغنيٌّ عن القول أن السوق الصيني يشكل أهم الأسواق لهذه الشركات؛ وذلك للشعبية الكبيرة لمنتجاتها في الصين. وهذه إشارة هامة أن الصين لم تعد تمثل مصدراً للعمالة الرخيصة، فهي تعد اليوم سوقاً شرهاً يلتهم المنتجات والماركات الأميركية. على صعيد آخر، مُني منتجو فول الصويا في أميركا بخسائر فادحة هذا العام؛ ذلك أن أهم أسواقهم (الصين) فرضت عليهم رسوماً إضافية، ما أفقدهم التنافسية.
عند الربط بين الدراسة التي افتتحنا بها التدوينة، والمشاهدات التي وردت، يمكن التوصل إلى نفس النتيجة "الاقتصاد الأميركي لم يعد مستقلاً عن نظيره الصيني". إن الهيمنة المطلقة التي كانت تتيح للإدارة الأميركية فرض العقوبات على الدول والمؤسسات، لم تعد موجودة على أرض الواقع بنمطها القديم.
ولا شك في أن التفوق الاقتصادي والعسكري الأميركي ما زال قائماً، ما يمكن الرئيس ترامب من معاقبة الصين وفرض عقوبات على غيرها من الدول. لكن هذه العقوبات ستكون باهظة الثمن، بل ومؤثرة في المواطن الأميركي.