عن بؤس سورية الأسد

13 يناير 2018
+ الخط -
("جبلك كولا")
لا شيء يكشِف بؤس سورية الأسد مثل الفيديوهات التي تنشرها صفحة "رئاسة الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة"، عن زيارات، بشار الأسد، المفاجئة إلى بيوت جرحى الجيش السوري. يدخلُ الأسد وعائلته، نظيفين مرتَّبين، إلى بيوت عشوائيّاتٍ منسيَّة. تدَّعي العائلة "المؤدَّبة" التواضع، والقرب من الناس. إذْ يفسِح حافظ بشار الأسد، الحفيد العبقري المُربَّى جيدًا، ومستقبل سورية، المجال لمن هو أكبر منه سنّاً من سكان البيت، للجلوس على كراسي البلاستيك الشهيرة. تفتحُ أسماء الأسد أحاديث مع أمّهات الجرحى أو زوجاتهم، فهي السيَّدة النسويَّة الأولى. أمَّا الجريح المشلول، فيراقِب ما يجري حوله، حزينًا لعدم قدرته حتّى على الكلام، وإثبات الولاء للرئيس، سبب شلله. يبعدُ الأسد وجهه من التقبيل الرطب لأهل القرى. الطبيب اللندني والرجل الحداثي الفرداني. في أحد الفيديوهات ثمَّة لقطة دامعة، إذْ يوقف فيها طفلٌ سيارة الأسد وعائلته. يسأل الطفل الأسد، سارحًا في خياله للأقصى، ومحاولاً لمس سقف الكرم والحب والعطاء، مبدياً رغبةً في بذل ما هو ثمين لديه، قائلاً: "سيدي الرئيس بجبلك كولا"؟

(عن القامشلي)

مدينة القامشلي ليست عظيمة أو استثنائيَّة أو خارقة. وأحذرُ من الحنين غير الموضوعي، المُشوِّه لصورة الأمكنة. هي مدينة فقيرة، وكانت قريَّة، ومحميَّة فرنسيَّة، يسكنها المسيحيون السريان والآشوريون واليهود أوَّلاً. هاجر اليهود من المدينة بعد قيام إسرائيل. ولا يزال الناس يتذكَّرون العطَّار، عزرا، الرجل المحبوب، ومُركِّب الأدوية، وخبير الأعشاب، ومسكِّن آلام الأسنان، والُمقرَّب من قلوب الناس. لا طبيعة خارقة بالمعنى الجمالي المَتعارف عليه. سهول قمح ممتدة، هي المكافئ البرِّي لمشهد البحر، سهولٌ صفراء في الصيف، وخضراء فسيحة في الربيع. يخترق المدينة فرع نهر الخابور المتفرّع بدوره من دجلة. النهرُ كان جاريًا وحيويّاً، قبل اتفاقيات التنازل عن المياه التي أبرمها حافظ وبشار الأسد مع الأتراك. التنازل عن المياه جريمة أسديّة أيضًا لا تقل فداحة عن الفساد والنهب. ومشهد النهر الناضب في مجراه، والمليء بأكياس النيلون والضفادع المُتعَبة، يشبه مشهد سورية الأسد البائسة. مدينة تعدّدية بالمعنى الحرفي للكلمة. عرب وأكراد وآشور وأرمن وسريان. العلاقة بين هذه المكوَّنات ليست في أفضل حال، وسرديات المجازر المرتكَبة حيّة ومشتعلة. ولكن التعامل اليومي والحياة التجاريّة والقرب المكاني فرض حدّاً أدنى من التعايش له جماليَّاته. ثمَّة تراث غنائي كرديّ وسرياني (مردلّي خصوصاً) عميق وساحر. مدينة اللغة العربيَّة السليمة، والفصْحَى الخلّابة، إذْ إنَّ منع اللغة الكرديَّة، أدى إلى رغبة نفسيَّة، لدى الأكراد في إتقان اللغة العربيَّة، لإلحاق هزيمة ثقافيَّة بالقامِع السياسي. مبالغة الأكراد في إتقان العربيَّة، هو احتجاجٌ سياسيٌّ بلبوسٍ لغويّ ثقافي. 
مدينة البيوت الطينيَّة الواطئة، والتسيُّس المبكّر، والمنشورات الحزبيَّة السريَّة. 
ألف تحيَّة إلى عبارة "القامشلي ترحّب بكم" عند مدخل المدينة.

(حدود الرعب)
اللحظة التي تجاوزت فيها الحدود السوريَّة، ودخلْتُ لبنان، شعرتُ بأنَّ رعباً هائلاً خرج من داخلي. نشوة النجاة، والاستفاقة من كابوس، والمعرفة بأنَّك بخير، وبأنَّ وجهك لن يشوه، ولن يضربك أحد كيفما يحلو له. لحظة زوال الخوف الأولي البدائي عن الجسد. المخاوف في سوريَّة الأسد أوليّة وبدائيّة وبسيطة. كتبتُ رسالة لأبي أقول فيها إنّي نجوت، وأدركت أنَّ من أخرجونا لن يسمحوا لأحد بالعودة إليها إلا ركامًا.
دلالات
دارا عبدالله
دارا عبدالله
كاتب سوري يقيم في العاصمة الألمانيّة برلين، من مواليد مدينة القامشلي عام 1990. له كتابان: "الوحدة تدلل ضحاياها" (صادر عام 2013) و"إكثار القليل" (صادر عام 2015). يدرس في كليّة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة "هومبولدت" في برلين. من أسرة "العربي الجديد" ومحرّر في قسم المدوّنات وموقع "ضفة ثالثة".

مدونات أخرى