رام الله... تشويه فلسطين الثقافي

21 مايو 2017
+ الخط -

 الأمعاء فارغة، ورؤوس خاوية. من زمن مضى، عندما استنبأ بريشته ناجي العلي ما سيصيرهم إليه "إله السلام" وهماً وسراباً... غضب شباب ومراهقون فلسطينيون بقطع الطرقات، فالزمن غير زمن "أنشودة الحجر".

ليس في تعليل المراهقين جديد على الإطلاق... مقدمات ما ستؤول إليه حالنا تزاحمت حين خطت إلى مشهد محزن عشته مع نهاية 2008... أقطع المسافة من جامعة بيرزيت، ومن شارع الإرسال انعطف طلبتها إلى شارع نابلس وصوتهم يهدر بـ "انْهَض لِلْثَّوْرَة وَالثَّأْر..انْهَض كَهُبُوب الْإِعْصَار...الثَّوْرَة نَهْج الْأَحْرَار".

ثمة مواجهة، على بعد عشرات الأمتار من مستعمرة "بيت إيل". إطارات تُحرق، وفي اليد أنشودة حجارة ليس إلا. أقف مدهوشا من مشهد متناقض: في غزة كان العدوان فجرا... وهنا، ليس بعيدا عن مقر المندوب السامي "كيث دايتون"، تتأهب الشرطة الفلسطينية، وسيارات الإطفاء للفصل وإخماد الحرائق. حل المساء... عدت إلى حي الماصيون. تأهب أمني ظاهر... وفي اليومين التاليين تصل المواجهات إلى حاجز قلنديا، رغم كل محاولات الشرطة الفلسطينية منع الشبان، وتعالت الأصوات أن الجموع ستلتقي مساء في "دوار المنارة"، وسط المدينة.

أخذت طريقا يمر بالمقاطعة، التي شكلت تاريخا في رحلة الراحل أبو عمار، قبل 4 سنوات من ذلك. على جدارها وبوابتها ثمة استنفار.

ألتقي بالصديق الكاتب، مهند عبد الحميد، وبعض وجوه أعرفها "أيام اليرموك". أحدق بالمشهد، وقد اقتربنا من ساعات توديع عام 2008 واستقبال 2009. هي صدمة فوق صدمات الوطن، حيث سأكتب لاحقا في موقع "عرب48" عن كآبة هذه المدينة المعتقلة في زمن "بدنا نعيش". فمن بين "الجموع" ثمة عشرات، في أجواء مبللة، تبحث عما يُبقي الشمعة متقدة... عقلنا البشري، مهما قمعناه، سيشب في لحظة ما عن كبت المقاربات... بصمت، وبعض الخيبات، أُخذني "فلاش باك" لا إرادي إلى أيام اليرموك، ونزول قوات الأسد الأب إلى المسافة صفر لقمع أمواج بشرية، في كل محطات تعرض الفلسطينيين، أينما كانوا، لخدش ولو... بما فيها اعتبار زعيم ثورتهم "أبو عمار" غير مرغوب فيه... أي والله كان أبو عمار في 1983 قد صار "بيرسونا نون غراتا" في عاصمة "الممانعة" و"قلب العروبة النابض"... رغم أن ذاكرة فتحاوية تقمع في مأساة سورية تاريخا لا يُقمع... ومثلها ذاكرة "شعبية" تركت إرث جورج حبش وليلى خالد تمد لسانها في وجوهنا... و"ديمقراطية" بلع فيها الرفيق أبو النوف لسانه عن "العدالة الاجتماعية".

في غربة الوطن لم يخفف عني سوى أستاذي الأول داوود تلحمي، و"أبو أمجد". و آخرون كانت معادلتهم واضحة. أكثر من بسط انهيار المشهد كان الأستاذ، نبهان خريشة، أبو سمير، طيب الله سيرته أينما حل.

لا جديد إذن، ففي المدينة، عاصمة الفعل الثوري والسياسي، أيام كانت بيرزيت ما كانت، وزمن ياسر عرفات لاحقا، جهد ترويض العقل ماض. سيفتضح الأمر حين تحول ثوريون إلى "إن جي أوز" واستبدلت برامج العمل الثوري بـ "بروبوزالات" مشاريع "يو إس إيد" والقروض البنكية السخية بضمانة السلطة. وعلى ما سبق تهكم "الرفيق عماد فراجين" في "وطن على وتر".

أن يغضب شبان من غياب الفعل في معركة "أسرى الحرية" يعني أننا أمام صورة فاضحة وكاشفة لأزمنة نحت انتهازيي "النضال". فقبل علي جمعة، المصري، ثمة مستشيخ فلسطيني، ومستوزر قالها قبلا عن تبرير "الضرب بالمليان".

للحكاية بآلامها، وكبتها، والمسكوت عنه، كثير من بقايا ذاكرة أطفال مخيم الأمعري.

عند قبر محمود درويش، في أجواء رومانسية، يستذكر عشاق زمن الاشتياق بعضا من أبياته... ويقفزون عن أخرى. حين يكون "الإخوة جبران" حاضرين في استذكاره تتحمس الأكف مصفقة... يدهشني كل ذلك.

كنت أتساءل: هل يدرك أصحاب الصفوف الأولى أية صورة كاريكاتورية جسدهم فيها ناجي العلي؟

لا تريد أن تقسو كثيرا... لكنك لا تستطيع أن تستمر صامتا... وكأن كل العبث ما عاد يعني شيئا سوى استذكار "فولكلور الثورة".