18 اغسطس 2020
الصحافيون والكتّاب العرب... صدمات نفسية مؤجلة
إن شئتم، فإن الكتابة، حتى في لحظات المرض الجسدي، يعدّها البعض تعزيزاً للمناعة، الجسدية والنفسية، وإن كانت عربياً تحت رحمة المزاجية أساس ابتلاء القلم بالناشر.
كان صديقي ستين، من التلفزيون الدنماركي، يخوض في رحيل جمال خاشقجي، وشبه "مذبحة موارد بشرية" تحوم في قناته لطرد 400 زميل/ة له، نزولاً عند رغبة اليمين القومي المتشدد، ليسألني ثان، مواسياً بمرضي؛ هل يحصل الصحافيون العرب على "مساعدة أزمة"؟ (وتسمى بلغة أهل الشمال KRISEHJÆLP )، وتشمل بالأساس دعماً نفسياً فردياً وجماعياً تخصصياً، للتعامل الآني مع أعراض الصدمات الفجائية، كحوادث وكوارث طبيعية. لكنها، وهنا الأهم في سؤاله، تشمل عاملين في قطاعات عديدة، بمن فيهم صحافيون يعايشون صدمات تطاول الوعي الباطني حتى أغلب الرافضين للاعتراف بوجودها.
لم أستطع سوى الابتسام، فالإسكندنافيون وصلت بهم الظنون أنّ غيرهم باتوا مثلهم، وخصوصاً في مهنة إذا ضايقهم شرطي أثناء عملهم يجرجرونه إلى المحاكم، ويحصلون على بيانات داخلية وجلسات نفسية في مؤسساتهم، للتخفيف من آثار صدمات، حتى لو لم تكن ظاهرة.. ماذا يحصل لصحافيي غزة واليمن وسورية على سبيل المثال؟
يقيناً أن كارين عطية في "واشنطن بوست"، وجدت سوبرفايزر (مشرف على العمل) تتحدث إليه/ا عن آثار مباشرة للتفكير بما جرى لزميلها خاشقجي، يقينيتي الإسكندنافية هذه أساسها تراكم عقود من تعاطي ثقافة أخرى في فهم العلاقة بين العطاء ومجموعة المؤثرات التي تصيب الناس، وعربياً حين يُناقش الأمر فالبعض يعدّه ترفاً، يزدريه مستهزئاً باعتباره " لا يستحق".
إن شئتم أيضاً، فإنها تشبه إصابة الجندي بمتلازمة "بي تي إس دي" PTSD، حتى لو لم يطلق رصاصة في جغرافية الانتشار، وهو أمر يُعترف به الآن أكثر من السابق، بعدما حوّل الإنسان إلى آلة قتل فحسب.
بكل الأحوال، في عالم الصحافة العربية، وخصوصاً في حالة "التدافش"، حباً وبغضاً، المسمى خطأً "تنافساً"، تداس الكثير من القيم. فرغم وقاحة البعض، تبريراً ودفاعاً عن قتل همجي، تبقى مسألة الانتباه، ولو بدردشة المؤسسات داخلياً بعيدة المنال، ولو جرى اختزالها ببيان نقابي باسمنا، كصحافيين، مندد، ويدعو ببرود وسخرية إلى "الحقيقة والعدالة".
مجموعة الاضطرابات الملازمة لإغماض العين، وفلاش بلاك عن الكيفية التي حقن وقتل بها صحافي وكاتب مثل جمال خاشقجي، لا يمكن تجنبها، وإن بدا كذلك في معمعة الانشغال بالآني، كما في حالة الجندي في معامع الحروب، غير آبه بالصدمات، إلا حين تهدأ حالة اليقظة الدائمة، ويفكر بطريقة "الهيلوكبتر".
باختصار، مسألة مواجهة صحافي لـ7 أو 15 جلاداً، ثم ذبحه، وتقطيعه، لا يمكن في العقل الباطني للصحافيين، المحترمين لمهنتهم، أن يخفف من وطأتها وصدمتها كنسها تحت السجادة.
ربما إذا مررنا بحادث سير، أو أي من الحوادث، ورأينا مصاباً، فسنفكر قليلاً، حين نعود لهدوء المنزل، بما جرى له/ا، فما بالك أن تستعيد شرائط، لا شريطاً واحداً، من الإخفاء القسري والسجن والتعذيب والقتل، والاغتيال المتلذذ كما رشح من القنصلية أخيراً؟
قد لا تروق البعض، مؤسسات إعلامية، ونقابات، وممثلي صحافيين، فكرة أن الصحافي يتأثر كبقية البشر. فلا تزال عقلية وثقافة أن "الرجل لا يبكي" تتحكم وتختزل مفهوم "القوة".
وفي ثقافة "التدافش"، فإن من يدفع الثمن ليس الأفراد فحسب بل المهنة، تحت طائل جلد العقل ليدفع نحو الأدراج العميقة، بعيداً عن الإحساس والتفكير بغيره وبمصيره، واللحظات الأخيرة لصدمة إنسان أحاط به أشباه بشر، مصرّون على إنهاء حياته، ربما بكذبة كبيرة: لقد خدروه قبل أن يقطعوه. ليبدو وكأن القتلة رحماء، فيما عنف التصفية على طريقة العصابات، رسالة لنصاب كلنا بصدمة وقلة تركيز، ليكسب الزيف بوجه الحقيقة..
والأخيرة أيضاً باتت تخضع لمزاجية مؤدلجة. صحيح أنه، علمياً، ثمة فقط نحو 1.6 في المئة من البشر يصابون بألم إن شاهدوا غيرهم يتألم، لكننا هنا نتحدث عن حالة ساخرة تعيش في وحل الانفصام، ولا تنتج إلا مزيداً منه في تجربة غير أخلاقية ولا مهنية، أولاً وأخيراً، وبينها تبلد و"تمسحة" يقومان على "الحب والكراهية".
كان صديقي ستين، من التلفزيون الدنماركي، يخوض في رحيل جمال خاشقجي، وشبه "مذبحة موارد بشرية" تحوم في قناته لطرد 400 زميل/ة له، نزولاً عند رغبة اليمين القومي المتشدد، ليسألني ثان، مواسياً بمرضي؛ هل يحصل الصحافيون العرب على "مساعدة أزمة"؟ (وتسمى بلغة أهل الشمال KRISEHJÆLP )، وتشمل بالأساس دعماً نفسياً فردياً وجماعياً تخصصياً، للتعامل الآني مع أعراض الصدمات الفجائية، كحوادث وكوارث طبيعية. لكنها، وهنا الأهم في سؤاله، تشمل عاملين في قطاعات عديدة، بمن فيهم صحافيون يعايشون صدمات تطاول الوعي الباطني حتى أغلب الرافضين للاعتراف بوجودها.
لم أستطع سوى الابتسام، فالإسكندنافيون وصلت بهم الظنون أنّ غيرهم باتوا مثلهم، وخصوصاً في مهنة إذا ضايقهم شرطي أثناء عملهم يجرجرونه إلى المحاكم، ويحصلون على بيانات داخلية وجلسات نفسية في مؤسساتهم، للتخفيف من آثار صدمات، حتى لو لم تكن ظاهرة.. ماذا يحصل لصحافيي غزة واليمن وسورية على سبيل المثال؟
يقيناً أن كارين عطية في "واشنطن بوست"، وجدت سوبرفايزر (مشرف على العمل) تتحدث إليه/ا عن آثار مباشرة للتفكير بما جرى لزميلها خاشقجي، يقينيتي الإسكندنافية هذه أساسها تراكم عقود من تعاطي ثقافة أخرى في فهم العلاقة بين العطاء ومجموعة المؤثرات التي تصيب الناس، وعربياً حين يُناقش الأمر فالبعض يعدّه ترفاً، يزدريه مستهزئاً باعتباره " لا يستحق".
إن شئتم أيضاً، فإنها تشبه إصابة الجندي بمتلازمة "بي تي إس دي" PTSD، حتى لو لم يطلق رصاصة في جغرافية الانتشار، وهو أمر يُعترف به الآن أكثر من السابق، بعدما حوّل الإنسان إلى آلة قتل فحسب.
بكل الأحوال، في عالم الصحافة العربية، وخصوصاً في حالة "التدافش"، حباً وبغضاً، المسمى خطأً "تنافساً"، تداس الكثير من القيم. فرغم وقاحة البعض، تبريراً ودفاعاً عن قتل همجي، تبقى مسألة الانتباه، ولو بدردشة المؤسسات داخلياً بعيدة المنال، ولو جرى اختزالها ببيان نقابي باسمنا، كصحافيين، مندد، ويدعو ببرود وسخرية إلى "الحقيقة والعدالة".
مجموعة الاضطرابات الملازمة لإغماض العين، وفلاش بلاك عن الكيفية التي حقن وقتل بها صحافي وكاتب مثل جمال خاشقجي، لا يمكن تجنبها، وإن بدا كذلك في معمعة الانشغال بالآني، كما في حالة الجندي في معامع الحروب، غير آبه بالصدمات، إلا حين تهدأ حالة اليقظة الدائمة، ويفكر بطريقة "الهيلوكبتر".
باختصار، مسألة مواجهة صحافي لـ7 أو 15 جلاداً، ثم ذبحه، وتقطيعه، لا يمكن في العقل الباطني للصحافيين، المحترمين لمهنتهم، أن يخفف من وطأتها وصدمتها كنسها تحت السجادة.
ربما إذا مررنا بحادث سير، أو أي من الحوادث، ورأينا مصاباً، فسنفكر قليلاً، حين نعود لهدوء المنزل، بما جرى له/ا، فما بالك أن تستعيد شرائط، لا شريطاً واحداً، من الإخفاء القسري والسجن والتعذيب والقتل، والاغتيال المتلذذ كما رشح من القنصلية أخيراً؟
قد لا تروق البعض، مؤسسات إعلامية، ونقابات، وممثلي صحافيين، فكرة أن الصحافي يتأثر كبقية البشر. فلا تزال عقلية وثقافة أن "الرجل لا يبكي" تتحكم وتختزل مفهوم "القوة".
وفي ثقافة "التدافش"، فإن من يدفع الثمن ليس الأفراد فحسب بل المهنة، تحت طائل جلد العقل ليدفع نحو الأدراج العميقة، بعيداً عن الإحساس والتفكير بغيره وبمصيره، واللحظات الأخيرة لصدمة إنسان أحاط به أشباه بشر، مصرّون على إنهاء حياته، ربما بكذبة كبيرة: لقد خدروه قبل أن يقطعوه. ليبدو وكأن القتلة رحماء، فيما عنف التصفية على طريقة العصابات، رسالة لنصاب كلنا بصدمة وقلة تركيز، ليكسب الزيف بوجه الحقيقة..
والأخيرة أيضاً باتت تخضع لمزاجية مؤدلجة. صحيح أنه، علمياً، ثمة فقط نحو 1.6 في المئة من البشر يصابون بألم إن شاهدوا غيرهم يتألم، لكننا هنا نتحدث عن حالة ساخرة تعيش في وحل الانفصام، ولا تنتج إلا مزيداً منه في تجربة غير أخلاقية ولا مهنية، أولاً وأخيراً، وبينها تبلد و"تمسحة" يقومان على "الحب والكراهية".