يومَ أصبحتُ ممثّلاً وهربتُ من العرض

26 اغسطس 2024
+ الخط -

اكتشفتُ المسرحَ قبل الشعر، وقبل أيّ فنٍ آخر. كان عمري 11 سنة حين دلفتُ بالصدفة إلى مقرِّ جمعيّةٍ موسميّةٍ وسط الحي، هي عبارة عن دكانٍ خلفي لأحد الأحزاب البائدة في واقع الأمر. استقطبني بسرعةِ البرق مؤطّرٌ جمعويٌ محترفٌ، ذو شعكاكة (شعر كثيف) مُلولبة.

- هل أنت من أبناء الحي؟

- نعم.

- نعدُّ مسرحية لعيد العرش القادم. هل تشارك معنا؟ ما اسمك؟

- نعم أشارك. اسمي محمّد.

- حسنا يا محمّد يبدو أنّك ممثّل جيّد..

كانت الاستعدادات لعيد العرش على قدمٍ وساق ككلِّ عام. ضربَ لنا المؤطّر موعدًا يوميًّا للتدرّب على المسرحيّة. كنّا حوالي تسعة أطفال. الركحُ مصنوعٌ من صناديق الخضار، والمسرح يعني الصراخ وتحريك الأيدي بطريقةٍ غريبةٍ، هذا ما فهمته حينها على الأقل. حتى بعد مرورِ زمنٍ طويل على ذلك، ظلَّ المسرح بالنسبة إليّ يعني شيئًا واحدًا: اعتلاء جماعة من الأطفال الخشبة، دخولهم في صفٍّ مُنتظم ككتاكيتِ الإوز بهندامٍ مُزركشٍ وفتح أيديهم وإغلاقها باستعراضٍ مُبالغٍ فيه، كما في أغنية "إفتحي يا وردة إغلقي يا وردة" التي كانت تغنيها البنات في قارعة الطريق.

كانت نيّة المؤطّر تلقيننا مدح السلطة وليس الفن

بعد ذلك، يتقدّم طفلٌ ويُلقي خطابًا بحماسةٍ شديدةٍ، مغمضًا عينيه بخشوعٍ، ثمّ مُحدّقًا في الجمهور، واحدًا واحدًا، وأحيانا مُحدّقًا في السقف، وصارخًا: أنت، أنت، إنّك هناك، وإنّي أراك، ولن تستطيع خداعي.. دون أن يكون في السقف، في حقيقة الأمر، أيّ شخص، بينما يفتح باقي الأولاد ويغلقون أيديهم ببطءٍ شديدٍ مُصطنعٍ، وفي تناغمٍ، ثمّ يركعون بلا مناسبةٍ ودون صلاة، ثم يستلقي الجميع أرضًا كأشلاءِ غارةٍ دقيقةٍ كاملةٍ، دون أن نسمعَ أيّ شيء، أو أن نرى أيّ شيءٍ آخر غير هذا المشهد أو أن نفهم أيّ شيء من كلّ هذا العرض الباذخ، ثم يصفّق الجمهور بحرارةٍ، واقفين، وبعضهم يصفّر وبعضهم الآخر يطلب إعادة المشهد، ليستمتعَ به من جديد: أعد.. أعد.. آعيييد.. بل يمكنني أن أقول إنّي شاهدت بعد ذلك، وحتى اليوم، هذا المشهد نفسه، يتكرّر عشرات المرّات في المسارح أينما كانت في العالم، دون أن أفهم السبب سوى أن أستنتج بعمقٍ أنّ المسرحَ فنٌ فطري بالأساس، وأنّ بداياته فطرية، وهي كذلك في كلِّ مكانٍ وزمانٍ، وعند كلِّ الشعوب، إنّها: إفتحي يا وردة.. إغلقي يا يا وردة.. 

لا أتذكر الآن نصّ المسرحية، ولا فطنت حينها للهدف المُبيّت منها. كانت تجربتي الأولى مع الفن دون حتى أن أعرف، أنّه فن. كانت نيّة المؤطّر في حقيقةِ الأمر تلقيننا مدح السلطة وليس الفن. لم يتحدّث عن المسرح ولا عن الفن. تحدّث فقط عن يوم العرض الشبيه بيوم القيامة.

شعرت أنّي فخور بنفسي لأنّي أفسدت للمؤطّر تلك المسرحيّة التافهة. لقد كان لاحسًا لأعتاب السلطة وليس مسرحيًا

كان دوري في المسرحيّة أساسيًا، دور بطولة على الأرجح. كنت تلميذًا مجتهدًا ومتأمّلًا، إضافة إلى الشغب. المشهد الأساسي الذي ستنتهي به المسرحية هو: تكسير بيضة فوق رأس المؤطّر. مشهد مضحك، خصوصًا إذا تخيّلتم شعكاكته الغيوانية (نسبة إلى قصّات شعور فرقة ناس الغيوان الموسيقية). أعطاني بيضة وشرح لي كيف يجب أن أخبطها فوق رأسه بعد أن أنشد بعض الترهاتِ التي تمتدح المقاومين والملك وتحتقر الخونة. شيء كهذا. خبطت البيضة فوق رأسه في التداريب وضحكنا جميعًا. بدا كمهرّجٍ. طلب منه طفلٌ آخر أن يخبطَ هو الآخر بيضة أخرى فوق رأسه. رفض بحجّة أنّه أحضر بيضةً واحدة فقط. ذلك الطفل أراد خبط البيضة فوق رأس المؤطّر رغم أنّ دوره في المسرحية ثانوي. تدرّبنا بشكلٍ جيّدٍ مدّة أسبوعين. أصبحت المسرحيّة جاهزة. يوم كذا وكذا هو يوم عيد العرش. سيأتي جمهور غفير من أمّهات، وآباء، وعجزة، وعاطلي الحي. علينا نحن الممثلين المحترفين الحضور قبل الموعد المُتفق عليه لبدايةِ العرض بساعتين على الأقل كي نرتدي ملابسنا الببغائيّة المزركشة وكي نستعدَّ.

جاء اليوم الموعود. لم أجرؤ على الذهاب. ما معنى أن أذهب ليتفرّج عليّ متقاعدو ومجانين الحي؟ قرّرت بيني وبين نفسي بشكلٍ ملتبس عدم الذهاب. ربّما بسبب الخجل، ربّما بسبب الجبن، وربّما دون سبب. ذلك ما كان. بقيت في البيت مع شعورٍ طفيفٍ بتأنيب الضمير. لقد خذلت المؤطّر الذي رأى فيّ بهلوانًا مستقبليًا ناجحًا في المديح.

مرّت أسابيع على ذلك. ذات صباح أحد مشمس، تقاطعتُ مع المؤطّر في زقاق. أتذكر ذلك اللقاء بوضوحٍ شديدٍ، وأتذكر مفترق الطرق الذي وقفنا فيه. لم يبتسم. قرّعني بشدّة:

- اعتمدتُ عليك ولم تأت. أنت شخص لا يُعوّل عليه.

طأطأتُ رأسي ثم غمغمتُ بكذبةٍ مكشوفةٍ:

- كنت مريضًا.

لم يستسغ أكاذيبي. ذهب عابسًا، وشعرت بالإهانة وبأنّي لم أكن في مستوى ثقة المؤطّر بي. أنّبني ضميري طويلًا، خصوصًا كلّما صعدت ذلك الزقاق المترب حيث مقرّ الجمعيّة، ورأيت بابها الحديدي العملاق الصدئ الذي يشبه باب مرآب المُتلاشيات.

مرّت سنوات طويلة. لم أعد طفلا. تخلّصت من تأنيب الضمير. بل شعرت أنّي فخور بنفسي لأنّي أفسدت للمؤطّر تلك المسرحيّة التافهة. لقد كان لاحسًا لأعتاب السلطة وليس مسرحيًا. الشيءُ الوحيد الذي أضعته بعدم مشاركتي في تلك المهزلة هو: خبط البيضة فوق رأسه، على أمل أن تكون بيضة فاسدة.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.