العم إسماعيل ورسائل العشق العذري إلى بناتِ الجيران
يصلّي العم إسماعيل صلاة المغرب داخل حديقته الصغيرة المُسيّجة باللّبلاب. ينظر إلى الشارع والسيّارات والمارة وهو يصلّي. أحيانًا، يعطي الأوامر بيده دون كلام لأبنائه، من خلال حركاتٍ مُشفّرةٍ لا يفهمها سواهم، وأحيانًا أخرى يُصفّق.
يصلّي كما لو أنّ الحديقة مسجد، فوق العشب مباشرة، أو فوق هَيْدُورَة (فراء) كبشِ العيد، أو فوق سترته. طاقيته على رأسه، وجبهته وساعداه مبتلّة بماءِ الوضوء الدافئ.
نمرّ أمامه راكضين، فيُراقبنا بعينيه، يتبعنا بنظراته فقط، دون أن يحرّك رأسه، كمن يتهيّأ لسحقِ بعوضةٍ. أفهم من نظراتِه تلك أنّنا شبيهان إلى حدٍّ بعيد بتلك البعوضة التي إن تجاوزت حدودها، فسيكون مصيرها صفعةً من يده السميكة المليئة بالنتوءات والأخاديد.
إنّه بنّاء، يحمل الطوب والآجرّ وأكياس الرمل والإسمنت على ظهره بسهولةٍ شديدةُ، كما نحمل نحن وصلة الخبز، أو "طاوة" الحلوى الخفيفة إلى الفرن.
ابنه يصلّي خلفه خوفًا منه، تاركًا لي أن ألعب وحدي برتابةٍ، الأمر الذي جعلني أدمن الصلاةِ معهما أنا أيضًا، بعد أن نتوضّأ بغلّاي نحاسي واحد بالتناوب، كلّ واحد يفرغ على يدِّ الآخر، على عتبة تلك الحديقة الصغيرة، حيث يتوضّأ وقت كلّ صلاة، حتى في فصل الشتاء.
أخبرنا بصوتٍ أجشّ عميق: إنّ ماء الوضوء بهذه الطريقة لا يضيع حتى بعد ضياعه، لأنّه يسقي العشب واللبلاب، ونظر بفخرٍ إلى اللبلاب الذي بدا لنا أخضر ومُزهرًا ومُزدهرًا بشكلٍ غريب.
نصلّي خلفه المغرب جماعة، نقرأ السور في السرِّ بأنفاسٍ مسموعةٍ كي نؤكّد له أنّنا حقًا نصلّي، وحين نركع تمسّ عجيزتانا الحائط، لأنّ الحديقة صغيرة جدًّا، وعمّي إسماعيل يستحوذ دائمًا على أكبر بقعةٍ فيها، تاركًا لنا الحائط فقط.
أفهم من نظراتِه إلينا أنّنا شبيهان إلى حدٍّ بعيد بتلك البعوضة التي إن تجاوزت حدودها، سيكون مصيرها صفعةً من يده السميكة المليئة بالنتوءات والأخاديد
حين نسجد نسمعه يدعو بأدعيّةٍ سريعةٍ كالرصاص، تدرّب عليها سنوات، نغمتها لذيذة ومصحوبة بكحاته وأنّاته وعُطاسه أحيانًا: اللهم ارزقني، اللهم ارزقني، اللهم ارزقني، اللهم ارحمني وارحم والديّ ومن عمل صالحًا، اللهم اغنني، اللهم اغنني، اللهم اغنني، اللهم.. إلخ..
حين يكون واقفًا يلصق يديه بشكلٍ متصالبٍ فوق صدره، مُوسّعًا ما بين رجليه بطريقةٍ مميّزةٍ، فنفعل مثله. في الركعةِ الثالثة، لا نسمعه يقرأ السور، بل نسمع من لحظةٍ لأخرى نحنحاته فقط، أو تنهده، أو كحّاته، أو يحكّ أنفه، أو يدخل سبّابته في أذنه ويحرّكها بسرعةٍ فائقةٍ إلى فوق وإلى تحت كمطرقةِ جرسٍ كهربائي، أو يدخل يده تحت طاقيّته ويحكّ رأسه، بعد ذلك نسمع: الله أكبر، ونراه ينحني فننحني مثله.
يصلّي بنا ويراقب الشارع والسيّارات والجيران والمارة، ملتفتًا أحيانا برأسه التفاتةً كاملة، بينما نراقب نحن حركاته وسكناته ونحنحاته، شاعرين بطاقةٍ كبيرةٍ من الحنو والسكينة تأتي إلينا منه عبر تلك الحركاتِ والنحنحاتِ في ذلك الطقس من الوقوف والانحناء المُتواتر والقراءة المتكرّرة للسور والأدعية نفسها. أستغرب كلّ مرّة أنّ طاقيّته لا تقع في أثناء سجوده.
كانت إصبعه تتحرّك بطريقةٍ خاصة جدًّا، لم أرَ مثلها حتى داخل مسجد مليء بالمصلّين، كان يتميّز عليهم جميعًا بطريقةِ تحريك سبّابته التي لا يمكنني نسيانها، والتي لا أعرف أين تعلمها، والتي أعتقد أنّه قد يدخل الجنّة بسببها فقط، إذ كان يعقف سبّابته ويرخيها بسرعةٍ شديدة عوض أن يديرها في دوائر أو يحرّكها يمينًا وشمالًا فقط.
كان يحلو لي كثيرًا أن أفعل مثله، متخيّلًا أنّي أطلق رصاصًا متتابعًا من بندقيّةٍ في يدي في اتجاه أطفال متخيّلين، بالضغط السريع المتوالي على زنادها.
حين يسلّم يستدير في اتجاهنا مغمضًا عينيه، مربِّعًا رجليه، يستغفر الله بتحريك رأس إبهامه بسرعةٍ فائقة فوق فقرات أصابعه، جاعلًا من يده سبحة، فنفعل مثله. بعدها يدعو لنا دعاءً؛ أن يجعلنا الله من الذريّة الصالحة ويوفقنا في دنيانا وآخرتنا، ونحن عاقدان أكفنا متلاصقةً أمامنا كمن سيشرب من ساقيةٍ، وعيوننا تتحرّك أمامه بخشوعٍ أكبر من خشوعنا حين يكون مستديرًا إلى الجهةِ الأخرى.
يمسحُ رأسينا بيده السميكة الخشنة، بحنوِ تمساحةٍ تنقل صغارها، يكح وهو ينهض بتثاقلٍ ليدخل إلى البيت جارًّا صنداله البلاستيكي الأسود العملاق المُخصّص للوضوء فقط، وهو لا يزال يُسبّح بصوتٍ نصف مسموع، متأبّطًا الهيدورة، وضَوء اللمبة قد بدا ساطعًا باطمئنانٍ غريبٍ من باب بيته الموارب، بعد نزول تلك العتمة الأولى الخفيفة للمساء في غفلةٍ منّا في أثناء الصلاة.
نكون بعدها، ابنه وأنا، قد تطهّرنا بالكامل، وأصبحنا فعلًا جاهزين في تلك المساءاتِ الرخيّة الحالمة، لكتابةِ رسائل العشق العذري إلى بناتِ الجيران.