ينتقدونك لأنّك تذبح خروفاً وهم يذبحون الشعوب

15 يونيو 2024
+ الخط -

لست مع شراء الكبش وذبحه وسلخه، لكنّي مع أكل "بولفاف" (طعام مغربي)، خاصة إن كان مُتبّلًا جيّدًا بالملح والكمون، فيما أدخنة الشواء تصل حتى السماء السابعة. أشفق على الأكباش ولا أحبّ كثيرًا منظر تلك المجازر، سوى أنّي أشفق أيضًا على بطني.

ذبحنا كبشًا هذا اليوم، هنا في المنفى، وسلخناه وشوينا "بولفاف". الذبحُ هنا، والسلخ، وكلّ تلك الأشياء ممنوعة. لكن ليس علينا، إنّنا قادمون من الأسواقِ الأسبوعية ومواسم الجذبة والحضرة. أحفاد عيساوة والرحاليين وجيلالة وحمادشة. أحفاد شاربي الماء الفائر وآكلي الشوك والزجاج ومروّضي الأفاعي. قوانين أوروبا للأوروبيين وليست لنا. بولفاف مع البيرة يستحق المغامرة.

في المساء، اكتشفَ ألماني وبلجيكية أنّنا فعلنا ذلك، وجدتهما يتحدثان بدهشةٍ، كطفلين يخافان من الحقنة. سألاني باستغراب: هل حقًا أحضرتم كبشًا وذبحتموه؟ فاجآني بهذا السؤال الغريب.

اتكأتُ على الحائط وأنا أدخّن. شعرتُ أمام سؤالهما كما لو أنّهما ضبطاني عاريًا. حسنا، نعم، لقد فعلنا ذلك. أقصد أنّي لم أذبح، لكن (ج) فعل ذلك، وأنا أمسكت فقط بقائمةِ الكبش أثناء السلخ و"ذرذت" الكمون فوق بولفاف. بولفاف؟ ما هو بولفاف؟ سألتني وعيناها تبرقان. إنّه ذلك الشيء اللذيذ، كبد الخروف بعد أن نلفه بالشحم ونضعه فوق المجمر. أضافت: الشحم؟ أجبتها بثقةٍ كاملة في النفس، وأنا أبخ الدخان في اتجاههما بشكلٍ ودّي: نعم الشحم.

يوميًا يأكلُ الناس في العالم دجاجًا وخرافًا وأبقارًا، ورغم ذلك لم تنقرض بعد، ولن تنقرض أبدًا

أبديا استغرابهما من دون امتعاضٍ كبير. سوى أنّي قرأت عمقيهما. يعتقدان في سريّهما أنّنا همج، نذبحُ الأكباش. والحقيقة أنّ عملية الذبح همجية لا شك في ذلك، أنا لا أذبح الأكباش ولستُ سعيدًا بذبحها، سوى أنّ أبي وأعمامي وأخوالي وأجدادي يفعلون ذلك، وعليّ الدفاع عنهم الآن في هذا المأزق الكبير أمام أوروبي وأوروبية يشعران بالتفوّق وبالغرابة، وبالتقزّز أمام الدمِ المُراق. 

لم يسبق لي أبدًا أن ذبحتُ كبشًا. بعبارةٍ أخرى، المرّة الوحيدة التي ذبحتُ فيها كائنًا كان دجاجة. لم يتجاوز عمري الرابعة عشرة حينها. أمّي تربّي كتاكيتًا على السطح، أحدها صار فروجًا في شهر. أبي في العمل. قرّرت أمي طبخ ذلك الفروج المُحترم للغداء. حملت سكينَ خضارٍ بشجاعةِ المحاربات المنقبات، وقالت ناظرةً إلي: اتبعني. تبعتها إلى السطح كعصابةٍ خطيرةٍ مكوّنة من شخصين فقط. ناولتني السكين وقالت: بسمل واذبح. شعرتُ بالفخر. شعرتُ برجولتي وقد اكتملت بعد أن أخذ شاربٌ أصهب يغطّي شفتي العليا، شارب شبيه بأشواكِ حبّة التين الهندي. نظرتُ إلى أمي مستغربًا: كيف وثقت فيّ إلى هذا الحد لتكلّفني بهذه المهمة اللذيذة؟

قالت: لقد أصبحتَ رجلًا، ستصومُ هذا العام، اذبح الفروج. قلت باسم الله، واتكأتُ على الفروج بسعادةٍ ودون تردّدٍ. تركّل ثم مات، تاركًا بركةً قرمزية صغيرة من الدم تنعكسُ فيها شمس الحادية عشرة صباحًا. كانت شمسًا ربيعية رائقة إن لم تخنّي الذاكرة. مسحتُ السكين في جناحِ الفروج بعد أن همدت جثته كما يفعل أبي، كما يفعلُ الرجال، كما فعل أجدادي دائمًا، كما يفعلُ الأبطال في الأفلام.

الأوروبيون مهرة في الذبحِ والسلخ أكثر منّا، ليس ذبح الدواجن فقط، بل ذبح الشعوب أيضًا

 بعد ذلك أنّبني ضميري قليلًا. لم أجد أنّها مهمة مُسليّة للغاية. لقد كان فروجًا مسالمًا، لطيفًا، لا يملك أنيابًا ولا مخالب، حتى أجنحته لا تصلح للطيران. منذ ذلك اليوم، أجتنبُ ذبحَ أيّ مخلوق لا يملك قوة دفاعية كافية. سوى أنّي فضلت دائمًا لحم الدجاج، خصوصًا وهو مشوي. لا بدّ من ذبحِ شيءٍ كي نبقى على قيدِ الحياة. حين تتأمل الدجاج والأكباش تتأكّد أنّها خُلِقت فقط لتُذبح وتُؤكل. يوميًا يأكلُ الناس في العالم دجاجًا وخرافًا وأبقارًا، ورغم ذلك لم تنقرض بعد، ولن تنقرض أبدًا. قوّتها تُوجد في تضحيتها. ذبحُ خروفٍ بالنسبة لي، خال تقريبًا، من أيّ ألم، إنّه شبيه بتقطيع الزبدة بسكينٍ مشحوذة جيدًا. رغم ذلك لا أتقدّم لهذا العمل إلّا إن لم يتقدّم إليه أحد. إن لم يكن هناك أحد في الغد لذبحِ كبشٍ أو دجاجةٍ أو بقرة سأتطوّع بكلِّ برودٍ، وبكلِّ شاعريةٍ، والسكين الكبيرة في يدي للقيامِ بالمهمة. أمّا الآن فلن أرضى بذبحِ أيّ كائن يقلّ في القوّة والمهارة والذكاء عن ذئبٍ أو ثعلب.

الألماني والبلجيكية لا يعرفان كلّ ذلك. سألني الرجل: هل عملية الذبح والسلخ سهلة؟ مُبطنًا السخرية في سؤاله. أجبته وأنا أشعل سيجارة ثانية من عقبِ الأولى: نعم، لقد قام بها البشر منذ ملايين السنين في كلِّ مكان. أجدادك أيضًا فعلوا ذلك. المتاجر هنا مليئة باللحوم من كلّ الأنواع والأشكال أكثر من متاجر بلادي. الأوروبيون يضيفون إلى الدجاجِ والخرافِ والبقر، الخنزير أيضًا. إنّهم مهرة في الذبحِ والسلخ أكثر منّا، ليس ذبح الدواجن فقط بل ذبح الشعوب أيضًا. ففي كلّ الأحوال تبقى الطائرة الحربية في ثكنةٍ أبشع بكثير من سكينٍ في يد فلاح لا يذبح بها سوى دجاجة أو خروف. ذبحُ الأرواح أيضًا تطوّر كثيرًا مع تطوّر العلوم والمعارف والمصارف والذكاء الاصطناعي. العالم بأكمله عبارة عن مسلخ، عن دماءٍ غزيرة، وإن كنت لا ترى الدم، عليك وضع نظارة طبية، والذين يملكون اليوم العلوم والخدع والمال والسلاح هم من يتزعمون هذا المسلخ، وليس من لا يملكون سوى السكاكين. 

تغيّرت نظرة الألماني ونبرة صوته وخفتَ البريقُ في عيني البلجيكية. شعرت أنّي فخور بأصولي وفطنت إلى أنّي أخاطبهما وأنا حاف. استأذنتهما بلطفٍ لأذهب للبحث عن "صندالتي"، وعن بيرة. أذنا لي بلطف ثمّ خاطبني الألماني وأنا أنصرف: أحضر لي بيرة معك من فضلك. أجبته من بعيد: حاضر عزيزي.

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.