هل ندمت ألمانيا حقاً على محرقتها؟

هل ندمت ألمانيا حقاً على محرقتها؟

26 ابريل 2024
+ الخط -

لا بدّ من السؤال. فشراسةُ ردودِ الفعلِ الألمانية المُخالفة للطبيعة الإنسانية والأخلاقية أمام جريمةِ إبادةٍ عرقية جارية منذ أكثر من ستة أشهر في غزّة، والإصرار، بالرغم من ذلك، على دعمِ الكيان الصهيوني المُدّعي التمثيل الحصري للضحية، والتي تحوّلت في إسرائيل إلى صورةٍ عن جلادها السابق، لا يمكن فهمها.

مهما فكرت وسألت وقرأت، محاولةً الوصول إلى تفسيرٍ منطقي لسلوك ألمانيا الفائض التعصّب لإسرائيل، خصوصاً خلال ارتكاب الأخيرة جريمة إبادة عرقية نادرة الحصول في تاريخنا الحديث، إلّا أنّني فشلت. 

لا أفهم. 

قلت في نفسي: فلنضعْ أنفسنا مكان ألمانيا: بلد قام قادته في مرحلةٍ من تاريخ البلاد، بإعدام منظّم، ومنهجي، لمواطنيهم ممن لا يطابقون مواصفات "العرق الآري" المصنّف، حسب عقيدة ألمانيا النازية، فائق الصفاء، ولا يجب أن تشوبه شائبة من الأعراق الأخرى الأدنى. يعني نوعاً آخر من شعب الله المختار. ثمّ؟ خسر النازيون الحرب العالمية الثانية، فدفع الألمان كافةً، وما زالوا يدفعون حتى اليوم، ثمن خسارتهم تلك. دفعوها بالجغرافيا والمال والاقتصاد والسياسة والعسكر، فضلاً عن الأثمان المعنوية. وإن كان دفع ثمن الجريمة، وهي مهولة، والاعتراف بالذنب وطلب العفو، طريقاً للمصالحة مع الذات أولاً، ومع الآخر بالنتيجة، فقد كان من المفترض أن ينتهي الأمر عند هذا الحد بعد ثمانيةِ عقودٍ مضت على تلك الإبادة الرهيبة. 

 تبدو ألمانيا في حقيقة الأمر خاضعة، وليست نادمة على ما فعلته خلال الحرب العالمية الثانية

لكن، وعلى ما يبدو، وبالرغم من كلّ الوقت الذي مرّ منذ خسارتها الحرب العالمية الثانية، وما ترتّب على ذلك من معاملتها لعقودٍ من قبل الغرب المنتصر كسجينٍ تحت المراقبة قد يُطلق سراحه لحسنِ السلوك، وعلى الرغم من "حسن السلوك" المبالغ فيه، والخضوع المنبطح أمام أيّ أثمان ومواقف طُلِبت منها، واستجابتْ لها فوراً، فإنّ ألمانيا تبدو في حقيقة الأمر خاضعة، وليست نادمة على ما فعلته. 

فبمراقبة أدائها خلال الإبادة الجارية، ولو دققنا في تفاصيله، من أصغرها إلى أضخمها، لا يمكن مقاومة الشعور بأنّ هناك شيئاً من الخوف الممتزج بسخريةٍ مبطنة في سلوك ألمانيا تجاه إسرائيل. هذا ما يتبادر إلى الذهن، وتُوحي به متابعة المواقف الرسمية الألمانية الهستيرية الداعمة للكيان الصهيوني، والتي دفعت بها لاتخاذ إجراءات عقابية ضدّ كلّ من يرفع علم فلسطين، أو شعاراً مسانداً لها، أو مجرّد صوته، دفاعاً ومؤازرةً للغزيين المتعرّضين منذ 202 يوم لإبادةٍ جارية على رؤوس الأشهاد. 

يدفعنا هذا الدعم المطلق للتأمّل بحقيقةِ الندمِ الألماني على المحرقة التي قامت بها، وطبيعته الأخلاقية والسياسية. فلو كان هناك ندمٌ حقيقي ألا يُفترض أنْ تحاول ألمانيا منع أيّ إبادة تجري في العالم؟ على الأقل بالكلام الديبلوماسي، أو حتى مجرّد الصمت، إن لم تكن قادرة على التدخل؟

لو كان هناك ندمٌ حقيقي ألا يُفترض أنْ تحاول ألمانيا منع أيّ إبادة تجري في العالم؟ على الأقل بالكلام الديبلوماسي، أو حتى مجرّد الصمت، إن لم تكن قادرة على التدخل؟

وإنْ كان تأصيل الندم على الجريمة، ومأسسته، خطوةً جدية ومحترمة، كما في تغيير المناهج المدرسية التربوية الألمانية مثلًا للتلاؤم مع ذلك الندم والتراجع عن الخطأ، إلا أنّ مبالغة ألمانيا غير المنطقية، جعلت من تلك الخطوات مجرّد انتقال من تطرّفٍ نازيٍ إلى تطرّفٍ صهيوني. 

تقول إحدى الصديقات المولودة لأمٍ ألمانية وأب لبناني، إنّها لا تذكر من المناهج الدراسية في طفولتها البرلينية شيئاً سوى المحرقة. وتضيف أنّ الإلحاح على هذا التذكير، وإنْ كان صحياً في الأصل، إلّا أنّه أصبح منفّراً لشراسته وانتفاء أيّ فرصة لمناقشةِ مظاهره. فقد تحوّل نوعاً من "عقدة ذنب مقدّسة"، يفرض توارثها على أحفاد الأحفاد، بدلاً من أن تكون درساً من ماضيهم، عليهم الاتعاظ منه لئلا يتكرّر، وبين الأمرين فارق كبير. 

لكنّني أرتاب بأنّ الموضوع ليس فقط كما يبدو تطرّفاً أعمى في التأكيد على الشعور بالندم بقدر ما هو تساؤل عن حقيقة وعمق ذلك الندم. فكلّ المواقف التي اتخذتها ألمانيا من الإبادة في غزة تُشكّك بنزاهةِ الندمِ الألماني الذي تدعيه سياساتها. 

الموقف الألماني من إسرائيل لا يسمّى ندماً أو توبة. هذا بكلّ بساطة يُدعى الانتقام 

فهل هو ندم الفاهم لهولِ جريمته والتائب عنها؟ أم هي توبة الخاسر، الخاضع، الذي أُذلّ لعقودٍ، والمتحيّن بالتالي فرصة للانتقام ممّن أذلوه؟ 

فالحق يُقال إنّ هناك اليوم في متناول ألمانيا انتقاماً شديد الخبث مُتاح لها، توّفره إسرائيل شخصياً، بزعامة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو. هذا المجرم الذي وصفه الكوميدي الفرنسي غيوم موريس وصفاً دقيقاً حين نعته بـ"النازي المختون"، وقامت القيامة ولم تقعد حتى اليوم في فرنسا المتحوّلة إلى داعيةٍ صهيونية. 

وأكاد أقول إنّه في ابداءِ هذا الولاء المطلق لكلِّ ما يفعله الكيان العبري سخرية مبطنة. نوع من شماتة أخلاقية تحاول تمويه نفسها بالإعلان عن دعمٍ شغوف، عاطفي ولامحدود، لكلِّ ما تقوم به إسرائيل. 

دعم زاد عن حدّه لدرجة أنه يُوحي بضدِّه. أي؟ بتمني أن تغرق إسرائيل أكثر فأكثر بالإثم النازي. يا للعزاء!

هذا لا يسمّى ندماً أو توبة. هذا بكلِّ بساطةٍ يُدعى الانتقام. 

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.