عن "ابن حتوتة" والسياحة المختلفة
كما تفضي بك السباحة في مياهٍ مجهولةٍ إلى اكتشافِ شواطئ جديدة، أفضت بي خوارزميات غوغل في أثناء تحضيري لرحلةٍ إلى فيتنام، إلى اكتشافِ رحالةٍ عربي شاب مثير للاهتمام، تبيّن لي بعد مزيدٍ من البحثِ عنه على الإنترنت، أنّي تأخرت فعلًا باكتشافه.
بدايةً لفت نظري اللقب. فقد اتخذَ الشاب العشريني، واسمه قاسم حتّو، لنفسه لقب "ابن حتوتة"، محيلاً متابعي رحلاته المشوّقة على منصة يوتيوب، إلى اسم الرحالة المغربي الأصل والأشهر في التاريخ، ابن بطوطة، الذي سافر 29 عاماً متنقلًا في عالمِ زمانه، متخذًا لنفسه أصدقاء في كلِّ بلدٍ، ومتريّثاً في المكوثِ إلى أن يفهم طبائع أهلها وقصصهم وتاريخهم وجغرافيا بلادهم، ثم يروي كلّ ذلك على شكل حكاياتٍ مشوّقةٍ، عاد فجمعها لاحقاً بطلبٍ من أميرٍ مغربي متنوّر في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". حكايات هي في الواقع من حيث مضمونها وأسلوبها سلف أدب الصحافة الميدانية والكتابة الوثائقية.
كان اللقبُ لفتةً إعلانيةً، موفقةً وظريفةً في آن واحد. موفقة لأنّ اللقب حملَ إشارة إلى طبيعة ما يقوم به صاحبه، وظريفة لأنّها ابتعدت بهذه التسمية التي تشبه غمزةَ تواطؤ مرحة، عن ادّعاء العمق والجديّة التي اتسمت بها رحلات سلفه القديم الذي استطاع أن يزور معظم بلدان العالم الذي كان قائماً في القرن الرابع عشر، وصولًا إلى مصر التي استطاع أن يعبر منها، ربّما عبر رفح، إلى غزة.
ومع أنّي منذ بداية الحدث الغزاوي لا أطيقُ متابعة أيّ شيء لا علاقة له به، وفي الوقت ذاته لم أعد أحتمل متابعة الحدث نفسه، إلّا أنّي لم أستطع، لساعتين من الزمن، أن أحيد بنظري عن الفيديو الذي يصوّر رحلة "ابن حتوتة" إلى البلاد التي هزمت الاحتلال الأميركي بثمنٍ باهظ، أقصد فيتنام.
كان الفيديو بذاته فاصلاً مشوّقاً أجبرني على مغادرة "أكواريوم مشاهدي الإبادة الجماعية" في تلفزيون الواقع المتوحش. أكواريوم أَسرتنا فيه إسرائيل منذ ما يزيد على 8 أشهر، بالتعاون والتكاتف والتضامن مع أنظمةِ الغرب وغالبيةِ المؤسّسات الإعلامية والدولية.
في الأصل، كانت نيّتي من الرحلة إلى فيتنام نابعاً من قرارٍ اتخذته في أن لا أبدّد مالي السياحي إلّا في بلدانٍ صديقة، أو على الأقل، لا تستفيدُ من أموالنا السياحية لتقتلنا. طبعاً بقدر الإمكان.
كما أنّ اسم فيتنام، بفضل الاحتجاجاتِ الطلابيّة في الجامعات الأميركية والأوروبية كان قد عاد يتردّد في الفضاءِ العام من بابِ التظاهرات الطلابية لأجل غزة، التي انفجرت للمصادفة من الباب نفسه الذي اندلعت منه خلال حرب فيتنام، أي جامعة كولومبيا الأميركية.
لذا، تابعتُ بشغف "ابن حتوتة" على دراجته النارية التي اشتراها من سوقِ المستعمل بداية رحلته، خصوصاً أنّ صاحبنا اتبع لاكتشافِ معالم تلك البلاد، جغرافيا وتاريخ حرب تحريرها. كما أنّ ما أعجبني في أسلوبِ سياحته الرخيص التكلفة، سلوكه لدروبٍ غير مطروقة، تتيحُ له الاحتكاك بالناس المهمّشين في الريف، والاطلاع على مناطق لا تعلن عنها دلائل السياحة وإعلانات الفنادق وشركات الطيران.
مشكلته الوحيدة كانت اللغة، ومع ذلك استطاعَ التواصل إلى حدٍّ ما بفضل خدمة "غوغل ترانسلايشن" الصوتية، ولو أنّ تواصله بقي سطحياً، حاول استكماله بمعلوماته.
هكذا شاهدناه يزور الأنفاق التي حفرها المقاتلون الفيتناميون، فدخلنا مع "ابن حتوتة" إليها، وتفرجنا على الخنادق. كما تريّثنا معه في بيوتِ بعض من صادفهم، فاطلعنا على أسلوبِ عيشهم ودياناتهم وبعض حكاياتهم.
وقد تساءلتُ في الحقيقة عن سرِّ اختيار الشاب هذا الباب لدخولِ فيتنام. وسرعان ما تبيّن أنّ الشاب فلسطيني، وأنّه، وإن كان أردني الهوية (ما الفرق بالحقيقة؟) إلا أنّ اهتمامه بتاريخِ نضال فيتنام كان نابعاً من قصته الشخصية كفلسطيني يحلم بدحرِ الاحتلال.
لذا قمتُ بتتبع قصص أخرى له، فلفتتني زيارته لأفغانستان التي أسالت حبرًا نقدياً (أراه في غير محله) متهمةً إياه بالترويج للسياحة في "بلاد طالبان" ذات السمعة الظلامية والمعادية للنساء والمثليين وحقوق الإنسان، كأنّما السياحة في بعض بلداننا العربية مختلفة كثيراً من هذا المنظور.
وإنْ كانَ نقدُ حكم طالبان المتشدّد، ليس فقط مع النساء بل مع الأفغان أنفسهم جميعاً، مبرّرًا من دون شك، ألا أنّ اتهام رحالة بالترويج للإرهاب بناءً على زيارةٍ اكتشفنا من خلالها بلاداً، ربّما لا نستطيع زيارتها بسبب صورتها الإعلامية المعتمة، غير منصف بتاتاً، لا بل من السهل تصنيفه بضيق الأفق.
فمن دون أن ننتبه، لا يخطر ببالنا حين نريد أن نقوم بسياحةٍ ما، اسم بلد من تلك البلدان المشابهة لأفغانستان. فكلُّ ما نتلقاه من ثقافةٍ وأخبار يسوّق للبلدان نفسها المصنّفة "سوبر سياحية". تلك البلدان، وأغلبها في الغرب ذي الماضي والحاضر الاستعماري. غربٌ يدين بالكثير من ازدهاره لثرواتنا المنهوبة، ولا ننفك نلتفت إليه في كلِّ شأنٍ، حتى اتخذت أعناقنا كوعاً باتجاهه لكثرة ما دُرِّبْنا على ذلك، في حين أنّنا لا نزال نجهل، سياحياً، قارات بكاملها كما في معظم أفريقيا، لا بل إنّنا، هنا في لبنان، نَسينا حتى أنّنا في قارة آسيا.
صحيح أنّ أهداف الشاب من سياحته شخصية، بمعنى إرضاء الولع بالاكتشافِ والمغامرة والشهرة، لكن قراره بزيارةِ أفغانستان ذات الصورة الخطرة والمجهولة في الوقت ذاته، التي تَبيّن في النهاية أنّها ليست بتلك الخطورة، كان شجاعاً.
أنا أيضًا لم أكن أعرف شيئًا عن أفغانستان. كان قد وصلني كما الجميع لدى خروج الأميركيين منها، تلك الصورة المُوجعة لمئاتِ الأفغان المتعاونين مع الاحتلال يَجرون خلف طائرة أميركية كانت تُجلي الرعايا قبل المغادرة النهائية. لكن، حين كنت أفتش عن مزيدٍ من المعلومات، عثرت على صورةٍ أخرى: صورة عبد الأحد مومند، أوّل رائد فضاء أفغاني ورابع رائد فضاء مسلم، صعد إلى الفضاء مع طاقم سوفييتي في رحلةٍ استمرت 9 أيام عام 1988.
هل هذا يعني أنّ الاحتلال السوفييتي أفضل من الاحتلال الأميركي؟ لا أظن. فالاحتلال احتلال. لكن علينا تذكير كاتب المقالة النقدية بأنّ حركة طالبان، كما العديد من الحركات السلفية التي "نبتت فجأة" في مناطقِ اشتهاء الأميركيين للنفوذ، كانت بالأصل حركة صوفية وُلِدت في مخيّماتِ النازحين الأفغان في باكستان، وأنّ تحوّلها إلى التشدّد لم يكن الغرب، صاحب قيم حقوق الإنسان والنساء والمثليين، والتي عرّت زيفها غزة، غريبًا عنها.
ربّما كان على ذلك الناقد أن يتريّث قبل أن يدبج تلك المقالة المتهوِّرة، لكيلا نصفها بالحمقاء.