هل أدان باسم يوسف حماس؟
الحلقة القنبلة لباسم يوسف وهو يواجه الإعلامي بيرس مورغان، والتي انفجرت على وسائل التواصل وذاع صيتها حتى تُرجمت إلى لغات عدّة، بينها العربية والفرنسية والإيطالية، ووصل عدد المتفاعلين معها حتى كتابة هذه السطور إلى أكثر من تسعة عشر مليوناً، ولا أعرف إن كانت هناك ترجمات أخرى.. جاءت (المقابلة/ الحلقة) لتقول شيئاً شديدَ الأهمية: حين يصبح الموت غزيراً لدرجة فقدان المعنى، وتحوّل الضحايا إلى أشلاء غير قادرة على النطق بأسماء أصحابها، وتصبح الدموع عند مشاهدها، العاجز عن الفعل مثلنا، بلا قيمة، ويفقد صراخ الضحايا تأثيره بتكرار المشهد وتشويه البروباغندا، فإنّ أفضل سلاح لإعادة شدّ الانتباه هو السخرية.
ليست أيّة سخرية، وليس أيّ ساخر، وليس أيّ ظرف. هذا ما أثبته الناقد السياسي الساخر باسم يوسف في مواجهة المذيع البريطاني المروّج للبروباغندا الإسرائيلية على قناته.
هذه المواجهة، التي يبدو أننا سنحظى بحلقة ثانية منها الأسبوع المقبل، كما كتب باسم يوسف على حسابه في منصة إكس، أثبتت أنّ كلّ جهودنا، و"كلّنا يعني كلنا"، في محاولة شرح ظروف عملية "طوفان الأقصى" لغير المتعاطفين، خصوصاً الأجانب، وبالأخصّ غير المتابعين لقضية فلسطين إلّا من بعيد، لم تستطع أن تفعل ما فعله هذا الرجل بنصف ساعة، بفضل سرعة بديهته المدهشة، وثقته الراسخة بمنطقه، واتكائه، كما عوّدنا دائماً منذ برنامجه الشهير "البرنامج"، على الحقائق الموّثقة، وسخريته السوداء الرهيبة وغير العدائية في الوقت ذاته.
هذا ليس هيناً أبداً.
فمنذ البداية، في مستهل الحلقة، ومنذ إجابته الأولى، أعار يوسف وجهه (إن كان بالإمكان قول ذلك) لغزة. أي أنه أنسن أهلها الفاقدين صورتهم الحقيقية في مخيلة مشاهد أجنبي، خضع منذ زمن طويل لضخ صور تربط بين الفلسطينيين والإرهاب. فها هو أمامهم: رجل أبيض وسيم بعيون ملوّنة، هادئ ومبتسم، يتحدّث الإنكليزية بطلاقة أيّ مواطن أميركي، يستخدم تعابيرهم اليومية، ولا يبدو عليه، ظاهرياً على الأقل، غضب أو توتر المناصرين للقضية الفلسطينية في خضم حدث مأساوي كالذي يجري حالياً، ومباشرة على شاشات العالم.
يا إلهي! كم يتطلّب ذلك من ضبط للنفس!.
حين يصبح الموت غزيراً لدرجة فقدان المعنى، وتحوّل الضحايا إلى أشلاء غير قادرة على النطق بأسماء أصحابها، فإنّ أفضل سلاح لإعادة شدّ الانتباه، هو السخرية
يسأله مورغان تعليقه على أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أي عملية طوفان الأقصى، فيجيبه بالقول إنّ الأمر "كان رهيبا، فكما تعلم، لا نستطيع استقاء الأخبار من هناك مباشرة، فعائلة زوجتي تعيش في غزة، وقد قصف منزلهم ولم يكن باستطاعتنا التواصل معهم في الأيام السابقة، لا أعرف كيف حالهم الآن لكن... أتعلم؟ نحن معتادون. فهم ككل أولئك الفلسطينيين الميالين إلى الدراما الذين يصيحون دائماً "أووه إنهم يقتلوننا.. إنهم يقتلوننا"، لكنهم فعلياً لا يموتون أبداً. إنهم شعب من الصعب جداً قتله.. أعني جربت ذلك مع زوجتي، فأنا متزوج منهم. لكني فشلت، فهي دائما تتخذ أولادنا دروعا بشرية".
وعندما حاول بيرس مورغان تجاهل رسائل باسم معتبراً ما قاله مجرّد "دعابة سوداء"، أي كلام غير جدي، محاولاً استعادة المبادرة في تحديد أرضية النقاش، قاطعه باسم، محتفظاً بالسيطرة على ميدان النزال، فذكره بما جاء في مقابلته مع الناشط الصهيوني بن شابيرو.
وعكس ما قد يتوقع بيرس، فإنّ باسم وصف المغفل العنصري بن شابيرو بأنه "أذكى شخص على الإطلاق"! وأنّه، أي باسم، يتابعه دائماً ويصدّق كلّ ما يقوله هذا الشخص حرفياً، مردّداً بوجه لاعب البوكر الخالي من التعابير ما قاله شابيرو في تلك المقابلة: "إنّ الرد المناسب لإسرائيل (على هجوم حماس) هو ضمّ قطاع غزة، وأن تقوم إسرائيل بقتل من تستطيع من أبناء (العاهرات) هناك". وأنّ أيّ شخص يطالب بوقف إطلاق النار هناك، يجب اعتباره متعاطفاً مع الإرهاب!.
خلال مقابلته، أنسن باسم يوسف أهل غزة الفاقدين لصورتهم الحقيقية في مخيلة مشاهد أجنبي، خضع منذ زمن طويل لضخ صور تربط بين الفلسطينيين والإرهاب
ومع أنّ بيرس قاطعه بالقول إن شابيرو لم يقل "أبناء العاهرات" في برنامجه، بل في مقابلة أخرى، إلا أنّ باسم لم يضيّع لبّ الموضوع، عارضاً إحصاءات تظهر الفارق بين عدد شهداء غزة الضخم خلال السنوات الماضية، وعدد القتلى الإسرائيليين، مستخلصاً أنّ المعدل كان بنسبة: 27 فلسطينيا مقابل كلّ إسرائيلي. ومتسائلاً إن كان "سعر الصرف" هذا كافياً لشابيرو؟ وإن لم يكن، يسأل: "فما هو "سعر الصرف" المناسب الذي تطلبونه اليوم؟"، يقول.
هل أدان باسم يوسف حماس؟
فرض باسم يوسف سرديتنا للقضية الفلسطينية عبر هذه المقابلة الأشبه بـ"ستاند أب" تفاعلي. الفرنسيون خاصة، والذين يقدرون السخرية كثيراً، كانوا مذهولين بهذا الأداء لدرجة أنّ صحافيين كبار كرئيس تحرير صحيفة "لوموند" مثلاً، أعاد تغريد مقاطع مترجمة من المقابلة على حسابه، وأنّ قناة متحيّزة للرواية الإسرائيلية بطريقة فظّة هي "بي إف إم تي في"، هي الأخرى نشرت على موقعها الإلكتروني مقالة بدا صاحبها منبهراً بهذا الأداء غير الاعتيادي، إضافة إلى عدّة أقلام هامة ومعروفة ومتابعة من الجمهور الفرنسي.
لكن، في كلّ ما قرأته من مقالات أجنبية تعليقاً على المقابلة التي أصبحت "ترينداً" عالمياً على الإنترنت، وجدت أنّ هناك خطأً (هل هو مجرّد خطأ؟) مشتركاً بينها جميعاً: عدم فهمهم لبعض التعابير ذات المعنى المزدوج التي تغصّ بها المقابلة، خصوصاً لجهة جزمهم أنّ باسم يوسف أدان ما قامت به حركة حماس، في هذه المقابلة!.
لافتات رفعها متظاهرون مناصرون لفلسطين في دول العالم، كُتِب عليها: "إنّ التعامل مع إسرائيل، كالعلاقة مع نرجسي مختل: يغتصبك ثم يجعلك تظن أنّ كلّ الذنب ذنبك".
حسناً. إن كان مفهوماً ألا يعرفوا ما المقصود بعبارة "أحا" الشهيرة والشديدة المحلية (والتي قد تعني بالمصرية العامية: إنت فاكرني عبيط ولا إيه؟)، فهل كان من الصعب فهم أنّ الرجل، وبالطريقة التي وردت فيها هذه الإدانة المزعومة، لم يكن يعنيها فعلا؟ أم أنّ سوء التفاهم هذا كان مقصوداً لتصبح تلك الإدانة المزعومة بمثابة "المحلل الشرعي" لهؤلاء الكتاب ليستطيعوا الإعراب عن إعجابهم بتلك المقابلة، بالرغم من تواطؤهم مع رواية إسرائيلية يعلمون أنّها مزيفة ومخادعة؟
ومن أجل الشرح، لنعد إلى تلك الفقرة. فحين كان بيرس يحاول استعادة المبادرة في المقابلة عبر "حشر" باسم في مربع الإجابات "المطلوبة" التي ترضى عنها إسرائيل في ما يخصّ إدانة حماس، استبقه باسم حتى قبل أن يسأل "أعلم أعلم أنك ستسألني السؤال (الممل) التالي: (وبلهجة الروبوت الرتيبة) هل تدين ما فعلته حماس؟ ثم يجيب بلهجة الروبوت نفسها: نعم أدين حماس. هه (وكأنّه يقول مبسوط كده يا حبيبي؟). ثم يلحقها بالجملة التالية التي توضح سخرية الجملة الأولى "أصلا حماس هي أم الشرور في العالم أجمع". فكيف يكون الرجل قد أدان حماس؟.
وبالمناسبة، عدد من المعلّقين، بينهم بعض الأصدقاء، أثاروا هذا النقاش عبر التعليقات على المقابلة.
قد يكون الرجل غير راض عمّا فعلته حماس بالفعل، لكنّي أجزم أنه من الذكاء بحيث يعلم أنّه، لا المكان هو مكان مناقشة ذلك، ولا الزمان زمانها المناسب.
وبانتظار أن تكون المقابلة الثانية بمستوى الأولى أو حتى أكثر، يبقى أنّ بعض الاقتباسات من مقابلته أصبحت "تاريخية" كما في الاقتباس التالي، والذي كُتب على لافتات رفعها متظاهرون مناصرون لفلسطين في دول العالم: "إنّ التعامل مع إسرائيل، كالعلاقة مع نرجسي مختل: يغتصبك ثم يجعلك تظن أنّ كلّ الذنب ذنبك". فعلاً أحّا!.