نهاية التجربة الجامايكية (9)

02 ابريل 2023
+ الخط -

كان ما أخرجه "مورفیوس" من الصندوق مختلفاً تماماً عن كلّ توقعاتي، عبارة عن أنبوبين صغيرين يشبهان أنبوب معجون الأسنان. مدّهما إليّ، فأخذتهما بحذر، وأنا أنظر إليه، ثمّ قال: "افتح أحدهما وجرّبه"، سألته وأنا أحاول إخفاء هلعي: "أجرب ماذا؟" 

قال لي: "إنه كريم جديد مرطب للبشرة، ابتكرته بعد تجارب عدة مع زوجتي، مصنوع من أعشاب البحر والأفوكادو". وحدّثني أنه ينتجه في ورشة محلية في البلدة التي كنّا فيها، وهو متشوّق جداً لأن يسوّقه في أميركا، وسيكون ممنوناً لي لو قبلته كهدية وأوصلت عینة منه إلى أحد أقربائه في كالیفورنیا. 

نظرت في وجهه لبضع ثوان، ثم إلى الأنبوبین في يدي، ثم إلى مرافقه الواقف خلفي، ثم إليه مرة أخرى، ثم انفجرت ضاحكاً بشكل هستیري، أضرب يدي على فخذي، ومائلاً برأسي إلى الوراء حتى كدت أن أقع، فيما الرجل ینظر إليّ باستغراب وذهول. تمالكت نفسي بعد دقائق عدة، وقلت له ضاحكاً وأنا أمسح دموعي: "یا رجل هذا هو؟ كلّ هذه المصائب من أجل هذا؟".

نظر إليّ باستغراب، وقال: "أية مصائب؟". قلت له: "لا عليك، إن كان هذا الكريم ما تستعمله أنت وونستون، فأنا أضمن لك نجاحاً باهراً في كلّ الأسواق العالمية، وليس في أميركا فقط، وأني سآخذ مسروراً أيّ كمية تريدها". وأخذت الصندوق البلاستیكي والعنوان الذي یريد أن یرسل الصندوق إلیه في أميركا، ثم طلبت منه أن یوصلني إلى فندقي إذا لم يكن لديه مانع.

أكبرت في الرجل حرصه على توعية شباب منطقته وهمّه الشديد على توفير فرص العيش الكريم لهم، وإعادة تأهيل من سُجن منهم وتعليمه

ركبنا بسیارته المرسیدس، التي بدت لي كمركبة فضائیة مقارنة بسیارة ونستون، وتجاذبنا أطراف الحدیث عن السیاسة والسیاحة ومشاكل البلد. أخبرني الرجل، الذي كان اسمه الحقیقي مستر دامیان، عن طبیعة عمله في تجارة السیارات وتأجیرها، بالإضافة إلى بعض المصانع والورش الیدویة الصغیرة التي تقوم بإنتاج بعض المواد الغذائیة الخفیفة والصابون والمنسوجات، والتي یشترط أن یكون عمالها من سكان القرى والبلدات النائیة التي لا تصلها أغلب الخدمات الحكومیة، والتي تعاني من البطالة والتهمیش، ثم حدّثني عن الوضع الاقتصادي الصعب والفساد والبیروقراطیة المنكوبة بها جامایكا، كبلادنا تماماً للأسف، وأنه قرّر أن یخوض معترك السیاسة بعدما ضاق ذرعاً بفساد المسؤولین وترّهل الأجهزة الحكومیة وسوء خدماتها، وأنه یشرف على برنامجین لإعادة تأهیل الشباب الذين قادهم سوء الأحوال المعیشیة والفقر والبطالة إلى الجریمة.

أكبرت في الرجل حرصه على توعیة شباب منطقته وهمّه الشدید على توفیر فرص العیش الكریم لهم، وإعادة تأهیل من سُجن منهم وتعلیمه، ولمت نفسي ووبختها على سوء ظنّها وحكمها المتسرّع على الناس، خصوصاً أولئك الشباب الذین، بالتأكید، لو حظوا بالفرص التي توّفرت لي ونالوا حقهم في التعلیم والعمل لما كانوا قد اختاروا طریق المخدرات والجریمة، ثم اعتذرت لمستر دامیان عن رفضي السابق أخذ عینته، وشكّي بطبیعة عمله، وخوفي من "التوّرط" معه، فتقبّل اعتذاري ضاحكاً ومثنیاً على مخیلتي الواسعة.

وصلنا الفندق بعد ربع ساعة، ونزلت من السیارة مودّعاً وواعداً بإیصال الصندوق، ثم دخلت غرفتي ووضعت الصندوق في حقیبتي بعنایة، وخلعت ملابسي ورمیت نفسي على السریر وأنا أضحك متذكراً أحداث یومي الحافل، أنظر عبر النافذة إلى شروق شمس یوم جدید، كانت فیه مغامرتي مع الراهبة وأوراق شجرة الحياة التي كانت بحوزتها، وتلك حكاية أخرى، سأحكيها لك قریباً.

(تمت)

أنس أبو زينة
أنس أبو زينة
مهندس برمجيات وباحث في مجال الذكاء الاصطناعي، مقيم في لندن وأنتمي، ثقافةً وهويةً ولغةً، إلى الوطن العربي. مهتم بالسفر والاطلاع على حضارات العالم المتنوّعة وعادات شعوبها، سافرت الى إحدى وثمانين دولة حتى اﻵن، وأكتب عن المشاهد والقصص والمغامرات التي عشتها.