التجربة الجامايكية (٦): الكوخ

12 مارس 2023
+ الخط -

بدأت بصعود التلة وراء مستر زِفت الذي كان یتلمس طریقه على ضوء هاتفه بینما كنت أتمنى طوال الوقت ألا تنزلق قدمي وأتكعبل من سفح التلة نزولاً لساحة الحفلة، وبعد ربع ساعة من التسلق المضني وصلنا إلى "منزل الضیوف"، الذي كان عبارة عن كوخ خشبي متهالك ظننته مستودعاً من النظرة الأولى، كان في مقدمة الكوخ شرفة خشبیة صغیرة مضاءة بلمبة في أحد جدرانها، علیها طاولة حدیدیة صدئة وقطعتا أثاث على شكل مكعبین، یجلس على أحدهما شاب في منتصف العشرینیات یلف صاروخاً، لك أن تتخیل فرحتي عندما رأیته - الشاب ولیس الصاروخ - لأنني كنت أتوقع أثناء صعودي وراء ونستون أني سأجد رهائن مكبلي الأیدي معصوبي العیون ومكممي الأفواه.

صافحني الشاب وعرفني بنفسه، اسمه مارك، فرنسي یسكن في باریس وتخرج حدیثاً، یحب السفر وتدخین الصواریخ، ثم اعتذر بعدما انتهى من تدخین صاروخه قائلاً إنه یرید الذهاب إلى الحمام، ودخل إلى الكوخ الذي كان حتماً مشمولاً مع السیارة بدعاء السیدة والدة ونستون، ووقفت أنا على الشرفة وألقیت نظرة سریعة إلى الداخل. 

حمدت الله وشكرته على توفیقه لي أنني لم أفكر أصلاً في المبیت عند ونستون، واعتذرت في سرّي لفندقي ونجماته الثلاث الذي كان قصراً منیفاً مقارنة بهذه الخُشة التعیسة، وبعد دقائق قلیلة خرج شاب ثلاثیني أصلع كان یدخن صاروخاً أیضاً مع رفیقته السمراء وصافحاني وجلسا مكان مارك. كان خواكین بلجیكیاً أباً عن جد، لكن صدیقته التي نسیت اسمها كانت بلجیكیة من أصول صومالیة، تجاذبنا أطراف الحدیث عن السفر والرحلات والعمل والدراسة، وعندما ذهب ونستون إلى داخل الكوخ، حاولت قدر الإمكان أن أسألهما إذا كانا مختطفین أو تحت تهدید السلاح أو ما إلى ذلك، فضحكا من سخافة الفكرة وقالا لي أنهما مقیمان في هذا الكوخ منذ أسبوع ولا ینقصهم أي شيء، طمأنني كلامهما نوعاً ما وخفف من توتري.

حمدت الله وشكرته على توفیقه لي أنني لم أفكر أصلاً في المبیت عند ونستون، واعتذرت في سرّي لفندقي ونجماته الثلاث الذي كان قصراً منیفاً مقارنة بهذه الخُشة التعیسة

خرج ونستون من الكوخ وقال لي أنه مضطر أن یذهب لیقضي حاجة ضروریة وأنه سیعود بعد نصف ساعة، سألته بسرعة إذا كان بإمكانه أن یأخذني لفندقي لأني تعبان، فاعتذر لأن الفندق لیس في طریقه كما قال، وعندما سألته ما هي الحاجة الضروریة الملحة قال لي عنده موعد لتحدید لحیته عند أشهر حلاق في البلدة، وأنه لا یستطیع أن یفوّت الموعد الذي حجزه من أیام.

دخل الثنائي البلجیكي إلى الكوخ، وذهب مستر زفت إلى الحلاق، وبقیت وحدي على الشرفة الخشبیة التي رطبت لساني طوال الوقت بالذكر والدعاء لها أن لا تقع فینا. جلست على أحد المكعبین وتلفت حولي أتفحص أنحاء الشرفة البائسة إلى أن وقع بصري على أبوي بریصین (مثنى أبوبریص مجرور)٬ یحبیان بشكل مدهش بزاویة قائمة على الجدار الخشبي بجانب اللمبة. كان أحدهما أكبر من الآخر، على الأرجح كانا بریص وأبوه أو أبوبریص وجّده. بالمناسبة أقدام أبوبریص فیها هیاكل نانویة ذات شكل معین تجعلها قادرة على الالتصاق بالأسطح الملساء بإحكام شدید، شاهدت ذلك في وثائقي عن النانوتكنولوجي. المهم كان عدد من العثّات بحجم النحلة تحوم حول اللمبة وتقترب من أبوبریص الكبیر، اقتربت إحدى العثات منه كثیراً، وإذ به فجأة یطلق أقدامه الأمامیة في الهواء مرتكزاً على الجدار بقدمیه الخلفیتین فقط وماداً جسمه ورقبته بطریقة مدهشة لیطبق على العثّة بفكیه في مشهد ملحمي درامي رائع أقسم أني رأیته بالعرض البطيء على طریقة بي بي سي ایرث، والذي لا شك فیه أن الدخان المتواصل من صواریخ سكان الكوخ كان السبب في روعة ذلك المشهد!

عاد في تلك اللحظة مارك وجلس على المكعب المقابل ووضع هاتفه على ركبتیه وأخرج من الحقیبة الصغیرة على وسطه علبة ألمنیوم دائریة وأخرى تشبهها تبین لي لاحقا أنها مطحنة یستخدمها لطحن أوراق الماریجوانا، أخرج من الحقیبة ورقة صغیرة وضعها على الهاتف، وأخرج ما في الأسطوانة من أوراق مطحونة وبدأ بعملیة اللف بعد أن وضعها في الورقة، ثم أخذ یحدثني عن فنون وطقوس لف الصاروخ، وكیف أنه یتلذذ و"یمخمخ" على عملیة اللف نفسها، بالإضافة إلى تدخین المنتج، لأنها طقس لا یتجزأ من طقوس التجربة الروحانیة كما یزعم.

تركته یهذي في كلامه وسرحت وأنا أفكر بهذا الموقف اللعين الذي ورطني فيه ونستون، وعاد الشاب البلجيكي وصدیقته وفي فم كل منهما صاروخ جدید، كنت قد عددت سبعة صواریخ قام بلفها خواكین في الساعة التي غاب فیها ونستون، أما مارك فكان أقل إدمانا حیث قام بلف ثلاثة فقط!

(يتبع)

أنس أبو زينة
أنس أبو زينة
مهندس برمجيات وباحث في مجال الذكاء الاصطناعي، مقيم في لندن وأنتمي، ثقافةً وهويةً ولغةً، إلى الوطن العربي. مهتم بالسفر والاطلاع على حضارات العالم المتنوّعة وعادات شعوبها، سافرت الى إحدى وثمانين دولة حتى اﻵن، وأكتب عن المشاهد والقصص والمغامرات التي عشتها.