التجربة الجامايكية (8): جوليانا

27 مارس 2023
+ الخط -

كانت صاحبة الوجه الملائكي إحدى الفتیات الثلاث اللواتي شاهدتهـن مع الرجل البدين ذي السكسوكة، قدرت أنها في منتصف العشرینيات، طویلة ورشیقة وأن عینيها زرقاوان وواسعتان وشفتيها ممتلئتان وملونتان بلون أحمر داكن جمیل، وكان شعرها أسود ناعماً ینسدل على كتفیها وفستانها الصیفي الأبیض لیصل إلى منتصف ظهرها، وعلى كتفها حقیبة صغیرة مرصعة بالمجوهرات.

ظللت محدقاً في وجهها ببلاهة إلى أن كررت سؤالها: "هل أستطيع أن أجلس على هذا المقعد؟". قلت لها "تفضلي المقعد لكِ"، بینما في سرّي كنت أقول لها أنتِ تجلسین في قلبي ولیس على المقعد! شكرتني وجلست، ثم أخرجت من حقیبتها الصغیرة علبة سجائر ومدتها نحوي ثم سألتني: "تدخن؟". شكرتها وقلت لها إنني لا أدخن. أشعلت سیجارتها وسألتني عن اسمي ومن أین أنا، فأجبتها وسألتها نفس الأسئلة، قالت إن اسمها جولیانا، أميركیة من ولایة واشنطن، كانت تدرس الاقتصاد في الجامعة ثم تركتها لتصبح عارضة أزیاء. ثم سألتها عن الرجل والفتاتین الأخریین، ارتسمت ابتسامة حزینة على شفتیها، ثم نظرت إلى الأسفل وقالت بحسرة إنهما عارضتا أزیاء مثلها وإن الرجل "عمّهما"، وأنه يصطحبهما دائماً في رحلاته، فهمت ولم أسأل أي أسئلة أخرى.

اتسعت عیناي في ذهول وطارت الابتسامة الحالمة من وجهي، إذ وجدت مورفیوس أمامي واثنین من مرافقیه الغلاظ الشداد معه

تحدثنا عن جامایكا والجزر الأخرى في الكاریبي التي زرت معظمها، وعن رحلاتنا حول العالم وأجمل الوجهات التي سافرنا إليها وتجاربنا السیاحیة المفضلة، ثم أخبرتها عن یومي الحافل وما حدث لي من أول لقائي بمستر ونستون حتى وصولي إلى الحانة، كانت تنفجر ضاحكة مع كل حدث وتفصیل أرویه لها من تفاصيل لیلتي التعیسة وكانت تسألني بلهفة وفضول عن ونستون ومورفیوس والغلام وباقي الشباب، إلى أن قاطع قهقهاتنا "عمّها" الذي أمسكها من یدها وهو یحدجني بنظرات غاضبة طالباً منها الذهاب معه، ودعتني بابتسامة عذبة راجیة مني أن أبتعد عن المشاكل، وأن أتوخى الحذر في أسفاري، شكرتها ووعدتها بأن أحاول، وذهبت مع عمّها وصدیقاتها إلى طاولة بعیدة.

استدرت في مقعدي مرة أخرى وطلبت من النادل هاتفي، فتحت تطبیق الخرائط وبحثت عن فندقي لأجده على بعد ثلاثة عشر كیلومتراً، وقبل أن أنادي النادل لأطلب منه أن یتصل بتاكسي، شعرت بيدٍ تربت على كتفي، فاستدرت بالمقعد مبتسماً متخيلاً جولیانا وقد جاءتني متلهفة لترتمي في أحضاني راجیةً مني أن أنقذها من عمها البغیض وأُخلصها من الحیاة معه!

اتسعت عیناي في ذهول وطارت الابتسامة الحالمة من وجهي، إذ وجدت مورفیوس أمامي واثنین من مرافقیه الغلاظ الشداد معه، یبتسم ویقول لي: "أنت هنا، لقد كنا نبحث عنك طوال الوقت"، ثم جلس في مقعد جولیانا، بینما وقف أحد معاونیه وراءه والآخر على باب الحانة، قاضیاً على أي آمال لي بالهروب. 

الصراحة كان أول ما فكرت فيه عندما رأیت وجه مورفیوس هو أن أهرب إلى عم جولیانا وأرتمي أنا في أحضانه متوسلاً إلیه أن ینقذني من مورفیوس وعصابته، خصوصاً أنه أیضاً یمتلك ملامح زعیم عصابة عتید، لكنني عدلت عن ذلك بعدما تذكرت نظرات الغضب والغیرة التي كان یحدجني بها، واستسلمت لمصیري وسلمت أمري لله لأنني أدركت أن كل خیارات الهروب استنفدت.

سألني مورفیوس أین كنت؟ قلت له إني تعبت ولم أشأ أن أظل في الحفلة أو الذهاب مع رفیقي ونستون فقررت النزول هنا، وبعد جدال طويل أنكرت فيه هلعي الواضح ومحاولتي الهرب من السيارة، قال لي إنه بما أنني هنا یجب علي أن أجرب منتج مصنعه الجدید الذي أخبرني عنه وأعطیه رأیي، وأومأ برأسه إلى مرافقه الواقف خلفه الذي ذهب وعاد بعد دقائق وفي یدیه صندوق بلاستیكي صغیر.

ازدادت دقات قلبي بعدما وضع الصندوق على البار بجانب أكواب المشروبات، ونظرت إلى مورفیوس بهلع وهو یفتح الصندوق على مرأى من جمیع رواد وعاملي الحانة متوقعاً أن یخرج أكیاساً من الكوكایین أو ألواحاً من الحشیش المضغوط أو حقناً من الهیروین، لاعناً في سري جامایكا كلها، والیوم الذي أتیت فیه إلى جامایكا.

(يتبع)

أنس أبو زينة
أنس أبو زينة
مهندس برمجيات وباحث في مجال الذكاء الاصطناعي، مقيم في لندن وأنتمي، ثقافةً وهويةً ولغةً، إلى الوطن العربي. مهتم بالسفر والاطلاع على حضارات العالم المتنوّعة وعادات شعوبها، سافرت الى إحدى وثمانين دولة حتى اﻵن، وأكتب عن المشاهد والقصص والمغامرات التي عشتها.