مَلَل يوم الأَحد

22 فبراير 2023
+ الخط -

"أمضيتُ اليوم كله بحثاً عن فيلم أمضي به اليوم"، بهذه العبارة التي تُشبه المفارقات المنطقية تحدّثت فتاة عن تجربتها مع ملل يوم الأحد. المفارقة هي إمكانية تمضية الوقت بحثاً عن إمكانية لتمضية الوقت! لكنها مفارقة الكثيرين.

غير أنّ فشل تلك الفتاة في العثور على فيلم مناسب داخل عصر تُوّفر فيه شبكة الإنترنت من الخيارات ما لا يُعد ولا يُحصى، يُحيلنا إلى مفارقة من نوع آخر: بقدر ما تتّسع دائرة الخيارات تتقلّص قدرة الناس على الاختيار. يتعلق الأمر بمفارقة تطاول كثيراً من التجارب الإنسانية، من قبيل المجتمعات ذات التعدّدية الحزبية الفائقة، والأسواق ذات البضاعة المتنوعة بإفراط، والتجارب العاطفية ذات الخيارات الواسعة.

يوم كانت المركبات السينمائية والقنوات التلفزيونية توّفر للمشاهدين خيارات معدودة، فقد كان الخيار سهلاً وممكناً، لكن اليوم حيث توّفر شبكة الإنترنت ملايين الأفلام الجاهزة للتحميل والمشاهدة، لذا طبيعي أنّ تتقلّص قدرة الناس على الاختيار، بحيث لم يعد لهم الشغف نفسه بالسينما، والأندية السينمائية، وسينما نهاية الأسبوع، بل أوشكت مشاهدة الأفلام أن تصير من الأمور النادرة.

المفارقة أنّ معظم الناس على منوال تلك الفتاة، يضيعون كثيراً من الوقت في الإبحار في عوالم الإثارة بحثاً عن فرصة لتضييع الوقت. غير أنّ عوالم الإثارة من فرط إثارتها ووفرتها وقعت بدورها في دائرة الملل، أي صارت مملة، وغالباً ما تعاود إنتاج الملل بشكل أشدّ وطأة.

بقدر ما تتّسع دائرة الخيارات تتقلّص قدرة الناس على الاختيار

كان الفيلسوف الفرنسي، بليز بسكال، دقيقاً في ملاحظته: "كنت دائماً أقول، شقاء الناس له سبب واحد، إنهم لا يعرفون كيف يمكثون داخل مساكنهم" (الخواطر). صار هذا الكلام اليوم أكثر انطباقاً على أيام الأحد. غير أنّ تجربة ملل يوم الأحد تتعلق بالمدن الحديثة، حيث تكون معظم المحلات والإدارات مغلقة على غير ما تألفه النفس في سائر الأيام، ويكون على المرء العيش بدون برنامج على غير ما تألفه النفس كذلك. الأحد تقاعد صغير.

لا أذكر من قالها لكنها قيلت: "يريد الإنسان حياة طويلة مع أنه لا يعرف ما يفعله يوم الأحد!".

تلك هي الحقيقة إذاً، كلنا ننتظر يوم الأحد على أحرّ من الجمر لكي نفرغ لأنفسنا، وما إن يأتي حتى لا نعرف ما الذي نفعله بأنفسنا! ملل الأحد أثارته بعض الروايات العالمية الشهيرة، فقد سبق لألبير كامو أن جعل بطل روايته (الغريب) يشكو من ملل يوم الأحد، ذلك اليوم الذي لم يكن يحبّه.

يوم الأحد مُمل إلى درجة أننا قد نصرف كثيراً من المال لأجل صرفه، وهو الاستعداد الذي تستثمره بعض الوصلات الإشهارية، ولو بنحو مخادع. مثلاً، أحد محلات الوجبات السريعة يكتب في الوصلة الإشهارية للتوصيل المجاني عبارة، "اكسر ملل يوم الأحد، وخلي الطلب عليك والتوصيل علينا". والحقيقة أنّ الوصلة الإشهارية تبيع للناس حلاً سهلاً ومضللاً: يمكنك أن تقضي على الملل بالكسل، تماماً مثلما يحاول معظم السجناء كسر مللهم من خلال عدم فعل أي شيء سوى انتظار الوجبات اليومية.

يكمن ملل الأحد في طبيعة الأحد، حيث نُترك فجأة بلا برنامج ملزم، بعد أن نكون قد ألفنا وجود برنامج يومي طيلة الأسبوع، وبحيث نُترك فجأة لأنفسنا التي لم نألفها خلال أيام الأسبوع. وفي غياب الألفة مع النفس، نتوه وسط خيارات لا معدودة ولا محدودة، لا سيما في عالم "العوالم الافتراضية". يزيد من كآبة المشهد غلق معظم المحلات والمؤسسات. طبيعي أيضاً أن يبدو الوضع أشدّ قتامة في العواصم الإدارية. ومن يدري؟ ففي وقت تدخل فيه أوروبا إلى عصر ما بعد المسيحية، أو ما بعد الأديان عموماً، قد يكون ملل يوم الأحد هو الدافع الأخير إلى الكنائس.

تحرز الرأسمالية نجاحاً كبيراً في استثمار ملل التقاعد لأجل تمرير قوانين تمديد سن التقاعد، بأقل ما يمكن من المقاومة

تعود عطلة نهاية الأسبوع إلى القرن التاسع عشر، مرحلة التطور الصناعي في أوروبا وشمالي أميركا. لكن في الوقت الذي أوحى فيه تطوّر وسائل الإنتاج بإمكانية ارتفاع أيام عطلة الأسبوع ليصبح ثلاثة، بعد أن أصبح يوماً ونصف أحياناً، أو يومين أحياناً أخرى، فضلاً عن إمكانية خفض سن التقاعد إلى أقل من الستين، فالمفاجأة أنّ الرأسمالية بدأت تستغل ملل الأحد لتجعل الناس يتقبلون عن طيب خاطر التخلّي عن فكرة أن يكون الأحد يوم عطلة بالضرورة، ما يشمل السبت أيضاً. وفعلاً فقد شرعت بعض المدن الغربية في التخلّي تدريجياً عن إجازة الأحد. هذا وتشهد بعض الدول مثل الدنمارك جدلاً حاداً حول إمكانية إلغاء إجازة الأحد كحل للركود الاقتصادي. بالموازاة تحرز الرأسمالية نجاحاً كبيراً في استثمار ملل التقاعد لأجل تمرير قوانين تمديد سن التقاعد، بأقل ما يمكن من المقاومة.

من سيكسر من؟

هل سيكسر الإنسان المعاصر ملل يوم الأحد، أم ستكسر الرأسمالية المعاصرة يوم الأحد؟

سؤال للتأمل والتشويق، وبالتالي فرصة لتكسير بعض الملل.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنجليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان Reforming Islam:Progressive Voices From the Arab Muslim World، 2015.
سعيد ناشيد