من هم المخربون؟
خلال تغطيتي للعدوان الإسرائيلي العام 2006، والذي قامت فيه إسرائيل بتدمير البنى التحتية في لبنان وقصف المدنيين في جريمة حرب موصوفة، ولو أنّ همجيتها لم تدرك الحدّ الذي بلغته اليوم في غزّة، وصلتُ في إحدى جولاتي الميدانية إلى قرية الطيبة الجنوبية، وتحديداً إلى المنزل الأخير الذي انسحب منه الجنود.
دخلت بُعيد انصرافهم، ربّما بنصف ساعة، إلى المكان، فوجدت المنزل، الذي كان لعروسين كما فهمت، أشبه بخرابة مهجورة تفوح منها رائحة بول الجنود، وقد دُلقت مؤونة المنزل من الحبوب والزيوت على الأرض، وتناثرت شظايا ثرّيات الكريستال والصحون والأقداح في كلّ مكان، إضافة لبراز على سرير العروسين ورسوم جنسية سافلة وكلام بالعبري على الجدران توّقعت معناه نظراً لطبيعة الديكور.
أمّا ما الذي كان يبعث العزاء؟ فقد كان بقعَ دماء الجنود المصابين التي انتشرت على شراشف مُمزقة، مرمية هنا وهناك حول دلو من الماء الحمراء. كان المنزل محطّماً بكامله. ليس فقط بفعل الاشتباك مع رجال المقاومة، ولكن، كان هناك تخريب متعمّد لكلّ ما هو موجود. لم تنج إلا بضع مناشف مطرّزة، مطوية بعناية ومرتبة، واحدة فوق الأخرى، في إحدى زوايا الحمام، مشيرة إلى ما كان عليه المنزل قبل دخول جنود العدو.
تذكرت هذا المشهد لدى قراءة ما يكتبه أو يصوّره الزملاء الغزاويون عن حال البيوت والأحياء الفلسطينية بعد انسحاب جيش المخربين منه.
نعم هم جيش المخرّبين، وهل تليق بهم صفة أخرى؟ ففي الواقع الميداني، لا تكاد تهمة واحدة يلصقها الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطينيين إلا وتكون وصفاً لجوهر كينونته.
لا تكاد تهمة واحدة يلصقها الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطينيين إلا وتكون وصفاً لجوهر كينونته
ولا تكاد صفة واحدة يطلقها على نفسه، من نوع أنّه ضحية، إلا وتكون في الحقيقة انتحال لواقع الشعب الفلسطيني منذ خمسة وسبعين عاماً.
وصفة "مخرّب"، واحدة من أشهر المفردات التي اخترعها العدو وألصقها بالفدائيين، وبكلّ من أبدى تجاهه أيّ نوع من المقاومة.
فالتخريب، إن تابعنا أفعال جيش إسرائيل وتوأمه المتنكر بلبوس مدني، أقصد جيش قطعان المستوطنين، هو شغلهم الشاغل منذ أن وطئت أقدامهم الهمجية أرض فلسطين.
أيّ حجة صالحة لتخريب حياة الفلسطينيين، حتى ولو كانوا من المذعنين للاحتلال. إن كانت الممتلكات أرضاً، دكاناً، مدرسة، مستشفى، محصولاً، أو منزلاً، لا يهم. بحجة التفتيش، تقتحم المنازل، تُقلب رأسًا على عقب، وكلّ ما عدا ما وضعه الجنود في جيوبهم، يجري تخريبه.
في غزّة، كان الإسرائيليون معتادين على تخريب حقول خضارها منذ ما قبل الحرب هذه، عبر إغراقها بمياههم المبتذلة. أمّا في البحر، فقد قام الاحتلال بإجبار الغزّاويين على تخريب ثروتهم السمكية، بفرض الصيد عليهم ضمن ثلاثة أميال فقط بدلًا من عشرة، أي في المنطقة التي تحضن الأسماك فيها بيضها كما أخبروني يوم زرتهم هناك. وحين يجرؤ صيّاد على تجاوز تلك الأميال؟ (وأحيانا دون تجاوزها) فهو، إمّا يُقتل بالرصاص، أو يقومون بتخريب قاربه وإهانته شتماً ورفساً، أو "يصادرون" المركب، وكلّ ما عليه حتى محصول الصيد.
هذا قبل "طوفان الأقصى". أمّا بعده؟ فقد أصبح التخريب وسيلة إبادة روتينية لتحويل غزّة إلى منطقة غير صالحة للعيش.
وصفة "مخرّب"، واحدة من أشهر المفردات التي اخترعها العدو وألصقها بالفدائيين، وبكلّ من أبدى تجاهه أيّ نوع من المقاومة
فمن تجريف أسفلت الطرقات لجعلها غير صالحة حتى للمشاة، إلى تدمير خزانات مياه الشرب ومحطات تكرير المياه. ومن تخريب الحقول الزراعية وتجريف المحاصيل التي كانت على موعد مع حصادها بعد هنيهة، إلى تخريب التربة بإغراقها بمياه البحر وتحويلها إلى أرض مالحة لا تصلح للزراعة لعقود مقبلة. أضف إلى كلّ ذلك تخريب مزارع النحل وتدمير المحصول وقتل قطعان كاملة من المواشي، إضافة لمجزرة في مزرعة أحصنة، هامت حيواناتها على وجهها بين دمار المنازل وأنقاض المباني، باحثةً عمّا قد تقتات به.
أمّا تخريب المدارس والجامعات، خصوصًا كلّ ما يمتّ للبحث والتطوير العلمي بصلة؟ فقد بدا "رياضة" الجنود المفضّلة.
هكذا، يقف يوسف موجوع القلب أمام أشلاء الكتب الممزقة والمخطوطات التاريخية الفريدة التي كانت تؤويها الجامعة الإسلامية مثلًا، والتي ذهب بعضها، حسب ما كتبه، وقودًا لتدفئة نازحين في العراء، بسطاء، كما يصفهم ملتمساً تصرّفهم العذر.
ويبدو أنّ تدمير المتاحف والتراث الفني كان على لائحة بنك الأهداف التخريبي الإسرائيلي حسب ما قاله مدير المتحف الفلسطيني الفنان عامر الشوملي، إذ يؤكد استهداف أماكن دون أخرى في غزّة، يعلم العدو أنها، إمّا متحف أو مركز يؤوي مجموعات فنية قيّمة.
لن تستغرب عندما تعلم أنّ الاحتلال الإسرائيلي انقض على "بنك فلسطين" منذ أيام، وسرق ما قيمته خمسون مليون دولار من خزائنه حسب ما ورد في الأخبار
أمّا السرقة؟ فلا عجب، أن تكون في ظلّ استباحة كلّ ما هو فلسطيني، نشاطًا رائجاً لدى جيش اللصوص. لا بل إنّ هذه الاستباحة للفلسطيني، وكلّ ما يملك، شجعت هجرة لصوص العالم إلى "أرض الميعاد"، كما فعل المستوطن "يعقوب" صاحب الفيديو الشهير الذي يصوّر مصادرته لمنزل جارته المقدسية بعد طردها من منزلها برعاية جنود الاحتلال، إذ يرد على لومها له بقوله "إن لم آخذه أنا فسيأخذه غيري".
لكن المفاجأة ظهرت عندما اكتشفنا أن يعقوب ليس بيعقوب، وهو ليس يهودياً حتى، بل أميركي مسيحي جاء بكلّ بساطة إلى أرض ميعاد اللصوص ليسرق كما يفعل الجميع، من ملك اعتقد أنّه سائب.
لذا لا يعود مستغرباً أن تقرأ بين أخبار غزّة، أنّ جيش الاحتلال فضلًا عن تعرية النازحين وتخريب ممتلكاتهم، "يعريهم" من أيّ شيء ثمين يحملونه، إن كان نقودًا أو مصاغ نساء. وبالطبع لن تستغرب عندما تعلم أنّه انقضّ على "بنك فلسطين" منذ أيام، وسرق ما قيمته خمسون مليون دولار من خزائنه حسب ما ورد في الأخبار.
ومن المؤكد لن تدهش لخبر آخر ورد أمس الأول، عن رفض فندق سويسري تأجير أدوات التزلج للسياح الإسرائيليين. أمّا لماذا؟ فلقد علّل الفندق رفضه بالقول أنهم بكلّ بساطة.. يسرقونها.
ولن ننسى صراخ فنادق دبي إثر التطبيع الإماراتي والسماح بدخول إسرائيليين، لأنّهم اكتشفوا بعد مغادرة أولئك السيّاح المحترمين، خلو الغرف من كلّ ما يمكن أن يُحمل، ابتداءً من الشامبو وانتهاء بمناشف الحمام، ومروًرا بعلّاقات الثياب ورولو التواليت، وحتى بعض اللوحات الجدارية.
ففي الحقيقة، كل ما انتزعته مني هذه السرقة الأخيرة، ابتسامة تشفٍ مُرشحة لتتسع في المستقبل!