من الطرب إلى الراب
يطرح هذا المقال سؤالاً يتعلّق بالذائقة الموسيقية في الجزائر: لماذا يعزف الشباب في الجزائر عن السماع للطرب، ويسارع ليعقد صلة جمالية مع الراب؟ هل يرجع ذلك إلى أسباب فنية أم اجتماعية؟
عندما ندقّق في الأمر جيدًا، سنجد أنّ الراب هو شكل من أشكال الفن الحديث الذي يرتبط بشكلٍ ما بطبقة المهمشين من جهة، وبالشعبوية من جهة أخرى. وهو في الغالب خطاب عامي يحمل نوعاً من الهجاء، يأخذك إلى كلّ العوالم بمجازات وانزياحات وتشبيهات عالية في الدقة والتصوير، حيث لا يتوقف العقل عن التأويل، ومحاولات التأويل، بعيداً عن الخطاب المباشر.
وهناك شكلان من الراب، أولهما، الراب الجماهيري الذي يُوّجه لفئة عريضة من الناس. وثانيهما، الراب النخبوي، وهو الذي يخصّ مجموعة "الرابورات" في حدّ ذاتهم، حيث يكون في شكل معارضة بينهم، أو ما يسمّى فن الكلاش أو البيف.
والراب في عمومه، يمثّل صورة عن الطبقات الاجتماعية المحرومة، وهو فنٌ غير رسمي، شعبوي، تكوّن خارج السلطة الرسمية، ويعيش في الهوامش. وهو في العادة قولٌ غنائي يحتج به الشباب ضد السلطة السياسية أو الدينية أو الثقافية. عموماً، الراب هو فنٌ ضدّ المركز الذي يمثّل الواجهة الرسمية.
يمكن للراب أن يكتشف مساحات داخل القصيدة العربية لم يتم اكتشافها بعد
واستطاع الراب عبر مراحله المختلفة أن يجد له ميزانا موسيقيا يختلف عن الطرب بشكلٍ عام، وإن كانت موسيقى الراب خارج السلّم الموسيقي، فإنّه لا يؤمن بالنوتة التي تتحرّك على السولفاج، وإنما يركز المؤدّي على تقنيات التعبير وسرعة الأداء وقوّة الخطاب.
موسيقى الراب في العموم هي خليط أو هجين من أشكال مختلفة من النوتات، بل من القوالب الموسيقية غير المنسجمة. لنقل في كلمة واحدة، إنّ فن الراب، كما يسميه أحد النقاد الأميركيين، هو فن وحشي أو غرائبي، لأنه نشأ في حضن المطرودين من السلطة والمركزيات المختلفة.
وبالتالي، فموسيقى الراب هي نوع من الفوضى الموسيقية التي تصاحبها حركات جسدية وغير جسدية، تتزاحم فيها الموسيقى بمعجم نابٍ غارق في التخييل والتشبيه. فالراب يعبّر عن قلق فني وموسيقي للمجتمعات ما بعد الحداثية التي هيمن عليها التعدّد والفوضى، وهي ليست فوضى بمعنى الخراب، بل الفوضى التي تعبّر عن قلق الإنسان تجاه مصيره في هذا العالم، إنّه أسود، ولكنّه يعبّر عن ثقافته داخل حضارة البيض، كما يحلو للراب الأسود أن يعبّر عن نفسه في أميركا أو فرنسا.
والراب يرتبط بإشكالية خطيرة، تكمن في أنّه محشو بالاضطراب والقلق والعنف اللفظي في كثير من الأحيان، حيث يكثر فيه المثل والشتيمة التي هي لغة شعبية، يواجه من خلالها الشاب المتسرّب من الفكر المدرسي (السولفاج)، ليعبّر عن سقوطه الاجتماعي، بل ليعبّر عن سقوط السلطة الأخلاقي وعدم التزامها العملي تجاه الشباب، مثل بعض أغاني الرابور الجزائري زكريا رحيم (zedk). فن الراب هو الممكن الوحيد الذي يهرب إليه الشاب المبدع من أجل أن يستعيد نفسه داخل الثقافة الوطنية، لذلك يمارس عبره كلّ أشكال النقد اللاذع والخليع، ليعبّر عن الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي، ولذلك يفجر الشاب داخل لغة الراب طاقات شعرية فريدة من أجل أن يعبّر عن المعاني التي يقصدها.
الراب هو لباس الإنسان الحديث الذي يزداد غربة كلّ يوم
تستطيع قصيدة الراب أن تكون بديلاً من حيث الإيقاع والموسيقى عن القصيدة الفصيحة الكلاسيكية، أو يمكن للراب أن يكتشف مساحات داخل القصيدة العربية لم يجر اكتشافها بعد، فالتجريب الذي يمارسه فن الراب داخل القصيدة غير الحداثية يُبنى على خمس سمات هي: تنوّع الموضوع، هجنة الموسيقى، تشظّي المعنى، التناص مع الأشكال الموسيقية، إعادة تشكيل واقع فائق.
هذه السمات الخمس لقصيدة الراب هي التي يحلم من خلالها الشاب بخلق واقع شعري يؤّثث الخراب الذي يشعر به في محيطه الخارجي، فتردّد لوازم شعرية عما ينبغي أن يكون عليه الواقع، أو عن حلم صناعة واقع جديد.
الراب هو لغة الشباب المعاصرة، قصيرة غير مباشرة، يكتنفها الغموض، والأكثر من هذا، أنّ الراب هو لباس الإنسان الحديث الذي يزداد غربة كلّ يوم.