الغناء حينما يكون قيمة مضافة

18 يونيو 2023
+ الخط -

إلى زمن قريب كنت أعتقد أن الراب الذي تكّون بعيداً عن أعين السلطة وبعيداً عن المركز، وعن شكل الموسيقى الرسمي والمؤسساتي سيكون مجرد طقطوقة صاخبة بالعنف والكلام البذيء، كما هو شائع ومتداول عند محترفي هذا الفن الغرائبي. ولكن حينما بدأت أسمع لـ"فوبيا" اكتشفت أنّ هناك بقية صالحة ستجعل من أغنية الراب لغة العصر التي تحتفي بقيّم الإنسان النبيل، تتحدث عن مشاعره ومشاكله بلغة قوية ومباشرة دون أيّ إضافة غير أخلاقية.

مع "فوبيا" أصبح الراب قيمة فاضلة في الكلمة والمعنى والتصوير، في "Hana" لا يخجل هذا الأخير في أن يتحدث عن حبيبته (Poca) ويعبر لها عن مشاعره بلغة جزائرية بسيطة فيها من قيم الاعتراف ومن العشق الخالد ما لا يخدش الأخلاق العامة، بل إنّ في أغنيته Por Favor من المعاني السامية التي تقترب من الصور التي نجدها في الغنائيات الطربية الكبيرة مع أم كلثوم وعبد الحليم وغيرهما، استطاع فوبيا بمقاطعه تلك أن يعيد اكتشاف العواطف الدقيقة التي يخجل الجزائري في العادة من تشخيصها كالعلاقة بين الأب والابن، أو بين صديق وصديقه.

مع فوبيا اكتشفنا أن هذا النموذج الربيع من الفنانين يستطيع أن يجعل الحياة ترقص على أنغام الفضيلة والتسامح والمحبة. ففوبيا يشكل نموذجاً رفيعاً للمغني الشاب المؤمن بالقيم الكبيرة والمتشبث بمبادئه ومرجعياته الأخلاقية الكبيرة كما تشخصه أغنية Moulana، هذه الأغنية مديحٌ ديني رابوي عالي الصوت يحاول فيه الرابور أن يشخص الداء، ويرفع يديه عالياً يطلب من الله الثواب والمغفرة والتوبة. إنّ هذا النوع من الفنانين سيعيد الراب إلى حِجْرِ الطاعة والقيم الرفيعة، بعدما فقد الراب عقله وظل شارداً بين أصوات سفيهة لا عقل لها.

استطاع فوبيا بمقاطعه تلك أن يعيد اكتشاف العواطف الدقيقة التي يخجل الجزائري في العادة من تشخيصها كالعلاقة بين الأب والابن، أو بين صديق وصديقه

فوبيا نموذج للفنان الواعي والمتعلم والخلوق الذي جعل المعرفة في خدمة الفن، فهو يشيع بين محبيه ومتابعيه من الشباب قيمة العلم والتعلم من خلال ثقافته العالية التي يوظفها في قصائده كل مرة، بل يشيع بينهم قيماً إنسانية مهمة في زمن صارت المادة مقدّمة على كل فضيلة أخرى.

السؤال الذي ينبغي أن نطرحه: هل يمكن لهذا الصوت الوحيد أن يعيد ترميم مأساة الراب في الجزائر؟ ألن يجرف التيار المعادي فوبيا ليصبح جزءاً دائماً في مماحكات الكلاش (البيف) الحاصل بين الرابورات؟ هل سيثبت فوبيا على خطه الإصلاحي ولا يتأثر بموجة الفاسدين والهابطين داخل هذا الفن؟ ألن تستطيع عصابة الراب تحويل فوبيا عن مساره التأسيسي لراب نظيف مشبع بالقيم الفاضلة ويحتفي دائماً بالقيمة الأخلاقية للمجتمع؟

أتصور أن ما يطرحه فوبيا في رابياته يتجاوز بكثير ما يقدّمه بعض المنظّرين للثقافة الوطنية وللفكر في مجالسهم التي يحضرها بضع عشراتٍ من المهتمين، فالجيش الذي يتابع فوبيا عبر كل منصاته على مواقع التواصل الاجتماعي يستطيع أن ينخرط في إصلاح منظومة الفن برمته من فنٍ فاسد كلمة ولحناً إلى فن يصلح الإنسان والمجتمع.

أتصور أن ما يفعله فوبيا يجب أن يشار إليه بالبنان، وأن تجري دراسة غنائياته في الساحة النقدية، لأنها تتحدث وتثري الحياة بما يفيض منها من معان سامية، تحث على الفضيلة والأخلاق الرفيعة. هذا الشاب هو استثناء في هذا الفضاء الغنائي الذي تتلاطم أمواجه بحناجر لا علاقة لها بقيم المجتمع وأخلاقه وتاريخه المجيد.

هذه البقية الصالحة من مطربي الراب الجزائري، حريّ بهم أن يجتهدوا أكثر لإغناء الساحة، أو لنقل لا بدّ لمحترفي هذا الفن الجدد أن يجعلوا فوبيا نموذجاً متفرداً يحتفون بطريقه وإبداعه لتنقية الساحة الرابوية من الخراب الذي بات يسكنها.

سمير رابح
سمير رابح
كاتب وناقد مسرحي من الجزائر، له عدّة نصوص مسرحية ومساهمات في الصحف الجزائرية، خريج قسم الأدب، تخصّص دراسات نقدية، ومتحصّل على ديبلوم الكتابة الدرامية. يعبّر عن نفسه، بالقول: "أنا لا أكتب رغبة في الكتابة، بل أكتب عمّا يهمني من الأشياء".