مسألة "بيبسي"

27 يونيو 2024
+ الخط -

عندما وصل النقاش إلى هاتفي على شكل صورة لغطاء قنينة المشروب الغازي الشهير "بيبسي"، مقرونة بملصقاتٍ غاضبةٍ تدعوني إلى مشاركةِ أصحابها غضبهم من شيءٍ ما، لم أفهم.

حسناً. شركة "بيبسي" أصلًا مطابقة لكلِّ مُواصفاتِ مبدأ وأحكام المقاطعة الاقتصادية للشركاتِ الداعمة للكيان الصهيوني منذ زمنٍ طويل. صحيح، لكن، ما دخل لون الغطاء؟ وماذا لو كان باللونين الأزرق والأبيض، لوني العلم الإسرائيلي؟ هل ظنّ الغاضبون أنّ الشركة "تتحدّاهم" بشكلٍ مواربٍ نكاية بمواقفهم التضامنيّة مع غزّة وفلسطين؟ أممكن؟

لكن، إن صحّ ذلك، فهل أصبحَ تطابق الألوان مع رمزِ الاحتلال مبرّرًا للمقاطعة؟ وأين كان الغاضبون قبل أن تنزل إلى الأسواق تلك القنينة "أم غطا" أزرق وأبيض؟ هل كانت "بيبسي" شركة مُسالمة وغير متورّطة بدعمِ كيان الاحتلال، لا بل بدعم جيشه تحديداً؟ وهل أصبح هذان اللونان الجميلان، لون السماء ولون الغيوم، البحر والزبد، بؤبؤ العين وبياضها، ماركة مسجلة لإسرائيل لأنّ رايتها ملوّنة بهما؟ وماذا عن النجمة؟ ألم تعد مهمة؟

لا شك أنّ لحرب الإبادة المتمادية على فلسطين، وبالمقابل، العجز عن إنقاذِ أخوةٍ في الإنسانية يُبادون يومياً، الأثر الأكبر في هذا الالتفاتِ الشعبي العربي، المتأخّر ربّما، إلى سلاح المقاطعة الاقتصادية. 

لكن، وبعد غبطةِ اللحظاتِ الأولى، سرعان ما يحزن المرء لعدم استغلال هذا التعاطف الكبير والخارق للحدود مع فكرةِ المقاطعة التي يبدو أنّ الكثيرين يكتشفونها هذه الأيّام. وبدلاً من أن تكون فرصة لزيادةِ الوعي بالتفاصيل، وشرح أسباب المقاطعة وكيفية دعم تلك الشركات لإسرائيل، يُبسّط الموضوع ليصبحَ نوعاً من حساسيةٍ على الألوان!

تفاقمت أهمية مستوى الاستهلاك للفرد، حتى أصبح مقدّساً

منذ بدء حركة المقاطعة في عام 2005، اصطدم المناضلون الداعون إلى المقاطعة بالكثير من العقبات. هذه الأخيرة، إن بدأت بغياب الوعي لأهميةِ المقاطعة، بسبب صعوبة فهم الآليات الاقتصادية لدى المستهلكين البسطاء، إلا أنّها لا تنتهي بالألفة مع منتجاتٍ اعتادوا استهلاكها منذ الطفولة أحياناً، ودخولها حتى في تركيبة صورتهم الاجتماعية، مرورًا بافتقادِ البدائل. والأهم، غياب الإثبات على الفعالية في التأثيرِ على الشركات الداعمة لإسرائيل.

فقد تفاقمت أهمية مستوى الاستهلاك للفرد، حتى أصبح مقدّساً: نوعه، درجته وخياراته جزء من صورة الفرد وهُويّته. 

من أجل كلّ ذلك، كان هناك من يسخر منّا حين نطالبه بالمقاطعة. لا بل إنّ البعض في بلادنا، وعلى خلفيةِ الاختلافات السياسية، كانوا، ونكاية بالمُنادين للمقاطعة، يقومون باستهلاك أكبر من تلك الماركة أو الشركة، خصوصاً تلك التي تحمل جنسيات يتماهون معها كالفرنسية والأميركية. فإن كان اليساريون وأنصار المقاومة وفلسطين، اللبنانيون، يقاطعون "ستاربكس" أو "ليبتون" مثلاً؟ فإن ذلك كان يكفي لجعل اليمينيين أو حتى مجرّد العنصريين الكارهين للفلسطينيين أو للمسلمين بشكل عام، مستهلكين مُخلصين لهاتين العلامتين. 

وإن كانت إشكالية الهُويّة الوطنية: من هو العدو؟ من هو الصديق؟ ومع من نتماهى؟ هي الأساس في تحديد الموقف من المُقاطعة لداعمي إسرائيل، فإنّ مصر لديها مشكلة أخرى. 

البعض، وعلى خلفيةِ الاختلافات السياسية، كانوا، ونكاية بالمُنادين للمقاطعة، يقومون باستهلاك أكبر من تلك الماركة أو الشركة

ففي سعيي إلى الفهم، دخلتُ إلى العالم الافتراضي حيث يدور هذا النقاش، ولمّا كتبت كلمة "مقاطعة بيبسي"، فوجئتُ بأنّ النقاش الذي اشتعل في مصر خصوصاً حول ألوان غطاء البيبسي، يدور حول إعلانٍ آخر للعلامة التجارية الأميركية. 

ماذا يقول الإعلان؟ يصوّر الملصق عبوة البيبسي المعدنية، وقد كتب بجانبها: "خليك عطشان". 

لم غضب المقاطعون؟ لقد اعتبروا أنّه رد من الشركة على مقاطعتهم لمنتجها. لكن، هل هذا صحيح؟ 

لا. أولاً لأنّه إعلان قديم يعود استخدامه على الأقل لسنتين، وثانياً لأنّه وبالمعنى الإعلاني، شعار ناجح، يحثّ على زيادة الاستهلاك. بمعنى: "فلتشرب ولا ترتوِ، فتشرب أكثر". وهذا في الحقيقة ما يحصل بيولوجياً، حيث إنّ استهلاك مشروبات كهذه، وبسبب المياه الغازية والبرودة، يتوهّم الشارب أنّه ارتوى، في حين أنّ تركيبة المشروب المُحلّاة بشكلٍ رهيب ومؤذٍ صحيّاً، تجعله يشعر بالظمأ بعد برهةٍ، فيستزيد شراباً.

لم غضبت الجماهير من هذا الإعلان؟ ألم يكن الأجدى أن تغضب من تفاصيل دعم الشركة لإسرائيل، وأن تتداولها فتعمّم المعرفة؟ ولم الآن؟ فكما قلنا إنّ الإعلان قديم يعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر الماضي؟ ألم تكن جماهير عمرو دياب ونانسي عجرم ومحمد صلاح وغيرهم كثر ممن شاركوا في إعلاناتٍ قديمةٍ لهذه الشركة، يعلمون أنّها لا تدعم الكيان فقط، بل أيضاً وحسب "نيويورك تايمز"، تدعم بالتحديد لواءَي "غولاني" و"غيفاتي" في الجيش الإسرائيلي؟ هذان اللواءان المتهمان بانتهاك حقوق الإنسان عبر استخدام المدنيين الفلسطينيين دروعًا بشريّةً، وإطلاقِ الفوسفور الأبيض ضدهم.

بدلًا من استغلال الفرصة لنقاشٍ حقيقيٍ يُجيب على الأسئلة الجوهرية، ويرسّخ الوعي العام بضرورة وفعالية المقاطعة، ينتشر نقاش حول تفصيل شديد الثانوية

على الأرجح لا يعرفون. 

فمنذ بداية التسعينيات كانت هناك شراكة بين "بيبسي كو" و"ستراوس" الإسرائيلية، وافتتحت الشركتان المتحالفتان مصنعًا للوجبات الخفيفة المملّحة في مستوطنة سيديروت، المبنيّة على أنقاضِ بلدةِ النجد الفلسطينيّة المطهّرة عرقيًّا من سكّانها الأصليّين سنة 1948. طبعاً هذه معلومات غيض من فيض عن جرائم "بيبسي كو" الموجبة لمقاطعتها. لكن بدلًا من استغلال الفرصة لنقاشٍ حقيقيٍ يُجيب عن الأسئلة الجوهرية، ويرسّخ الوعي العام بضرورة وفعالية المقاطعة، ينتشرُ نقاشٌ حول تفصيل شديد الثانوية. 

قد يقول قائل إنّ هذا النقاش "المصطنع" لعب دورًا إيجابياً في تجييش فئات من الناس لم تكن لولاه لتفعل، ضد "بيبسي". صحيح. لا بل إنّي أعتقد أنّ تصرّفاً كهذا، مشروع إلى حدٍّ ما في عالم تستخدم فيه تلك الكيانات كلّ الوسائل لتزييف وعينا وصورتنا وتتفيه حقوقنا وقيمنا. لا شك. لكن هل هذا ما يرسّخ الوعي بأهمية هذا السلاح على المدى الطويل؟

فنحن عكسهم، لا نتعامل مع الأعداء. بل مع أهلنا، إخوتنا. فهل ندعهم فريسة البروباغندا بدلًا من الوعي المدعم بالمعلومة المثبتة؟

لا أظنّ أنّ الجواب صعب.