محمد صلاح... البطل العادي جداً
ربما صادفت الكثيرين منه خلال تجوّلك في شوارع مصر، أو خلال حياتك في حاراتها وقراها... على الأقل هناك عشرون مليون شخص لهم الشبه نفسه، بالوجه ذاته، والملامح نفسها من دون تغيير. الذوق الشعبي هو هو، في الملابس، ونظارة الشمس من النوع الرخيص، وزيارة غير مكلفة للأهرامات التي تقف في ملل من زائريها منذ سبعة آلاف عام، وركوب "بالحب" على ظهر حصان دفع ثمنه شخص واحد وامتطاه "بالعشم" أربعة، ليلتقط كلّ منهم صورة على سفح الهرم، في حلّة الفارس النبيل، ولقطةٍ يعلّق عليها أصحابه "جامد ياخويا" و"الفارس واحد بس".
هو من هذه المناطق، وهي كلّ مصر الحقيقية، والتي تعبّر عنها بعيدًا عن مجمّعات الإعلانات وعيشة الرفاهية، وإلا لم يكن ليرميه التوزيع العسكريّ في مهمة شاقة على الحدود، واحتمالية كبيرة للمخاطر. فأبناء علية القوم في مصر، بمن فيهم أبناء اللواءات وكبار الضباط وأصحاب الرتَب العالية من موظفي الدولة، لا يذهبون إلى آخر سيناء على الحدود، وإنما محمد، ومن مثل محمد، والذين لم يكملوا تعليمهم، هم وحدهم من يذهبون، وكأنهم يُنفون لثلاث سنوات أخرى من عمرهم، تختصر عليهم الحياة، وتقصّر سنواتهم القادمة، في الخدمة المملّة على الحدود.
لا شيء، سوى علم مصر، وعلم الاحتلال الإسرائيلي، يراهما الجنديّ الشاب في فضاء الصحراء الممتد أمامه، هو الذي لم ينضم إلى جماعة، ولم يقرأ كتابًا، ولم يشاهد فيلمًا حتى يكره هذا العلم، وإنما هو الوجدان المصريّ، العاديّ جدًّا، والذي يلعن إسرائيل في كلّ كتاب، ويبصق على علمها إذا رأى ما يشبهه بالخطأ، فكيف تضع مصريًّا قبالة علم إسرائيلي، وجنود يذكرونه بما فعلوه في فلسطين على الجهة المقابلة، وتتوّقع أن يصمت لعشرين عامًا؟
سطّر الجندي المصري محمد صلاح اسمه في ذاكرة شعب قد ينسى أيّ شيء، إلا بطلًا بثّ فيه الأمل من جديد
توفي والد محمد صلاح، البطل، في حادث طريق، وكان سائقًا في النقل العام، فعمل محمد في ورشات "أليمونتال"، ونجارة، ولم يكمل تعليمه فاكتفى بالشهادة الإعدادية؛ قصة كلاسيكية مصريّة بامتياز، لا شيء يميّزها، كأغلب المهمّشين في طول البلاد وعرضها، والذين يفصلون تمامًا، وبمهارة عجيبة وقدرة فائقة، على ما منحته لهم البلاد وما حرمتهم منهم، وما يهبونه هم إليها، ليقطع الأسطورة الدولجية المقزّزة "متقولش خدت إيه من مصر، قول لي أنت إدّيت مصر إيه؟"؛ في الحقيقة، محمد وهبها نفسه وروحه وبطولته.
لا أتخيّل كيف فكر محمد مئات المرات قبل أن يسجّل فعله، أم كانت الفكرة في ليلة وتنفيذها في ضحاها؟ هل ودّع أمه جيدًا في آخر زيارة أم استودع حضنها عند الله لأنّ الفكرة لم تكن تمهله وقتًا أكبر حتى تنفيذها؟ وحين تسلّل من السياج الفاصل، ماذا شمَّ في أرض فلسطين؟ وكيف كانت مشاعره، وهو يزورها لأوّل وآخر وأعظم مرّة في حياته، وفي حياة المصريين على مدار خمسين عامًا؟ ضغط الرجل على الزناد، وسدّد، وقارب، وكانت كفاءته عجيبة، في أن يقنص ثلاثة عناصر على بُعد أمتار طويلة، بسلاح روسيٍّ قديم مهترئ، وبنجاح منقطع النظير!
وداعًا يا محمد، يا فخر العرب الحقيقيّ، يا نجمًا خارج البساط الأخضر، بعدما تلخصت بطولاتنا في الملاعب الممتلئة بالمتفرجين
دروس كثيرة، وكبيرة، ولا تكاد تنتهي، كلّما تحدث المرء عن محمد صلاح، الشابّ العاديّ جدًّا، المصريّ القح، البائس الفقير أبًا عن جد، الذي كبر لا يعرف من الدنيا إلا عرقه وكده، ويعرف أباه وأمه وأهله، ويعرف أنّ "إسرائيل" هي عدوه الأول، ولو وضعوه معها على خطّ خدمة واحد، في تعاون مائع، وتنسيق لزج، فإنّ الفطرة التي خرج بها إلى هذه الدنيا، وقد احتلت مشاعره جينيًّا، من شعبٍ يعتقد بقوة أنّ المسألة شخصية بين كلّ واحد فيه مع كلّ واحد في الطرف المقابل، كلّ ذلك هو ما دعاه، لأن يطلق الطلقات الأخيرة، ويُوقع قتلاه ويخلّف جرحاه، ويسطّر اسمه في ذاكرة شعب قد ينسى أيّ شيء، إلا بطلًا بثّ فيه الأمل من جديد.
وداعًا يا محمد، يا فخر العرب الحقيقيّ، يا نجمًا خارج البساط الأخضر، بعدما تلخصت بطولاتنا في الملاعب الممتلئة بالمتفرجين، فكنت هدّافًا من دون كرة، ومهاجمًا بلا أضواء، واسمًا قيمته السوقية أنه لا يقدر بثمن، في عالم البطولات الحقيقي، وذاكرة المجد العربيّ، ووجدان الجيل الجديد.. عزيزي محمد صلاح، شكرًا لأنك (بشكل شخصيّ)، جعلتني أكتب مقالًا لبطل مصريّ أوقع قتلى إسرائيليين على الحدود بسلاحه القديم وزيّه العسكريّ الرسميّ، مع أنني لم أكن أتخيّل كتابتها إلا في رواية من وحي الخيال.