مصر.. لو كان القبح دولة!
مقابر تاريخية مهدّمة في كلِّ مكان، وقباب أعمارها أطول من عمر الحاكم وأسلافه مجتمعين، ومدافن منبوشة لصالح هيئة الطرق والكباري، وتُحف فنية معمارية إسلامية مطموسة من على وجه الأرض، والشافعي جالس فوق ركام "قرافته" يندب حاله، ويندم على أيامه التي قضاها في مصر، وهو يرى تاريخ البلاد يتهدّم حجرًا حجرًا، وتطحنه الجرافات بين أسنانها، وتتساقط الأحرف التي لم تُمحَ منذ ألف عام، أخيرًا، في حِجر القاهرة، وذلك العامل الذي يبلغ من العمر أربعين عاما، المؤتمِر بتوجيه رئيس في السبعين من عمره، يقف بأقدامه فوق مئات السنين وآلافها، يدنّس وجهها، ويحوّلها إلى رماد، وتجويفات غير مفهومة بعدما كانت أعلامًا كاملة.
لا حدائق مثمرة، ولا أشجار معمّرة، ولا آثار عتيقة، ولا مباني عريقة، ولا شيء هنا يستدعي الجمال. مائة وعشرون مليون إنسان لا بدّ أن يُكدَّسوا بين الرمال والأسفلت، بين الغبار المتصاعد والركام المتساقط، بين سبّابة الحاكم، وسباب المحكومين، بين عجلة الأيام، وأيام العجلة، بين النظر إلى المجهول، وجهالة الرؤية، لا شيء في الأفق سوى ضباب كثيف، يخفي وراءه أضعاف ما بدا أمامه، من رعب متجسّد في هيئة هدّامات وهدّامة، آلات وأناس أسوأ من الآلة، وبؤس يرقب المشهد من بعيد، يفرح به ويبتهج، كم مرّة في حياته استطاع تحويل "القاهرة" إلى مقهورة؟ كم فرصة سنحت للقبح كي ينال من الجمال؟
تاريخ مصر يتهدّم حجرًا حجرًا، وتطحنه الجرافات بين أسنانها
ها هي مصر أمامك، وقد أهانوا شرفها، وأسقطوا عنها رداءها، جرّدوها من فعل التاريخ، ومن فعالية الجغرافيا، يمزقون ثيابها الطاهرة الوقورة، ويسلخونها عن انتمائها البعيد القريب، ويريدونها هكذا، ابنة اليوم البائس، وامتدادها الوحيد إلى عصر الفراعنة والمومياوات، حيث تلك النشوة التي تغذي فرعنة الحاضر، وتزيد من جَلد عبيد الواقع، وتضخّم الفقاعة حول ذلك الحكم الأبوي، الذي لا يدع بيت مدر ولا وبر إلا هدمه، ولا يدع مقبرة إلا وأيقظ أمواتها من سباتهم العميق، ولا يدع جدارًا خُطّت عليه ذات يوم حروف بالعربية إلا ودفنها تحت كتل كبرى من الأسمنت والأرصفة والكباري، التي لا تؤدّي إلا إلى مصير واحد، مدرعة لكلّ مواطن، تصله أينما كان ومتى كان، في أيّ مكان وزمان.
وصحيح أنّه قد تختلط عليك الصور لكثرتها وقذارتها، تلك المعاول إسرائيلية بامتياز، تلك الجرافات بطريقتها الهمجية إسرائيلية الصنع والتشغيل والغرض، تلك الآثار المهدومة للشافعي قد تجعل توقعاتك محدودة بين مكانين، إمّا مولده في غزّة، أو معاشه في مصر، وفي كليهما ستجد الشافعي مخضبًا بالدماء، مضرّجًا في الأرض دون كفن ولا حرمة ولا بيت ولا مقبرة، حتى يجزم لك الخبر بأنّها والله في مصر، وتتساءل هل من يهدم هنا عميل لمن يهدم هناك؟ لكنك دون انتظار الإجابة أو الحسم أو التحليل تخلص إلى نتيجة لا تحتاج إلى كثير من البحث أو التفكير؛ وهي أن القائم على تهديم مصر التاريخية بتلك الهمجية المفرطة والسرعة المريبة، ينطبق عليه القول: لو كان "القبح" دولة، لكان أوّل عملائها.