قمة غزة.. أصحاب الفخامة والسيادة والسموّ
كلُّ القمم قيعان، وكلُّ العلوّ انخفاض، وكلُّ الترفع وضاعة، وكلُّ الشواهق سفوح، ما دامت غزّة تنزف ما تنزف، وتذرف ما تذرف، وما دامت الاجتماعات في القاعاتِ المُكيّفة تزيد الفجوة بين تلك الأرض المنكوبة، والشعب الجريح، وبين الأحلام المخملية التي يعيش فيها القادة، بينما ثمّة فرق كبير، وشتان البون، وهيهات هيهات، بين البطولاتِ الورقية والبيانات، وبين البيّنات والأبطال الحقيقيين، وتلك الجبال الرواسخ في أماكنها، لا تغادرها إلا غارةً على العدوّ، أو رحلةً رأسيةً إلى الجنة، أمّا من يجتمعون مرةً كلّ سنة، في ذكرى عام من "القمّة" الأولى التي لم تنتج شيئًا سوى تغوّل التطبيع مع الاحتلال، وارتفاع سقف الخيانة، فتلك ليست قمّة، وإنما ربّما نجد في المعاجم مساحةً للجناس الناقص، حين تكون "قُمَّة" مفردًا لقمامة، أو مرادفًا لها، والفعل "يقُمّ".
أين تقع القمم الحقيقية؟ أين تكون؟ هل من قمم تنمو إلى الأسفل؟ تحت الأرض؟ قمم تزدادُ شموخًا كلما تطلخت أيديها بالغبار والطين؟ قمم لا ترى الشمس، ولا تناطح السحاب، قمم بأطوال عادية لرجال عاديين تبرز فجأةً من فوهةٍ في الأرض، أو هوّةٍ في الجدار، ثم تسدّد بعزم، ويد الله التي ترمي فوق يديها، فتلك هي القمم!
حين يجاهد الرجل حتى يجاوز الستين من عمره، ويجهد بين السجن والنفق والمقاومة، ويكدّ ويجدّ ويتعب، فلا يضع السلاح ولا يخفض السبابة ولا يترك الزناد ولا يهدّئ المقاومة، ثم يشتبك وهو قائد القادة، الجنديّ في قمرة القيادة، فيتوغل ويوجع العدوّ، ويشارك الجند المغارم الثقال، ويجرح ويجوع ويظمأ، ويعيش تحت الأرض سنوات وأشهرًا في مقابر مؤقتة، ويعيش فوق الأرض حرًّا والطائرات تترصّده، ومخابرات العالم أجمع تُسخّر كلّ ما تملك بحثًا عنه للفوز بلقطة "المخابرات الخارقة" بين استخباراتِ العالم، ثم يحرمُ عدوّه حتى من اللقطة النهائية التي يريدها، وهو صائم مقاوم، فتلك هي القمّة الحقيقية!
المقاومون هم وحدهم أصحاب الفخامة والجلالة والسيادة والقيادة والجلالة والكرامة والشهامة والنشامة والسموّ
حين يُجوَّع شعب ويظمأ، حين يُقتل ويُبعد، حين تُمثّل بجثثه، وتدفن جثامينه بلا أكفان، ويستشهد أبناؤه بلا رؤوس ولا أقدام، وتتناثر الأشلاء في كلِّ مكان، ثم لا يعطي الدنيّة، ولا يصغر، ولا يعود يملك من الدنيا كلّها شيئًا، ومع ذلك لا يستغل كلّ هذا، فتلك هي قمّة القمم، وأولئك هم الجبال الجبال!
حين يُحاصَر شعبٌ كريمٌ عزيز النفس أعزل لعقدين من الزمن، ويُحرم من حياته لسنواتٍ كثار ثقال، ويعيش الموت كأنّه سنّة الحياة التي تجري قبل الحياة نفسها، ويبيت في العراء، وينام في الشوارع، ويُدفن في الأرصفة، ومع ذلك يرفض أن يُحكم بالحديد والنار، وأن يشتري الحياة بذلّة، وأن يختار الخيار الأسرع الأسهل، وأن يسلّم أبناءه لعدوّه، فيظنوا بذلك أنّهم خلصوا من صداعهم وصداع الاحتلال، فيستمرون في عنادهم وتحديهم وبطولاتهم بوعيهم وبلا وعيهم، بما أرادوا وبما أجبروا عليه، بما فرضوه بأنفسهم أو بما فُرض عليهم، ويظلّون يضمّدون الجراح ويعالجون الندبات في مستشفياتٍ منهارة غير صالحة للموت حتى تصلح للحياة، مواصلين ذلك المضمار من الجهاد، وقد خذلهم القريب وإن نصرهم الغريب، وقد حوصروا من إخوتهم، وضيّق عليهم الدنيا جيرانُهم، ووجدوا من عار القريب ما لم يتصوّروه في أسوأ سيناريوهات الخذلان؛ فتلك هي القمم، وهؤلاء وحدهم، وحدهم، وحدهم، لا غيرهم، لا غيرهم، لا غيرهم.. أصحاب الفخامة والجلالة والسيادة والقيادة والجلالة والكرامة والشهامة والنشامة والسموّ!