محتكرو المعارف

01 أكتوبر 2023
+ الخط -

أعتقد جازما أن من يحكم ويسيطر ليس من يمتلك القوة، بل من يمتلك المعرفة، وسبق وكتبت هنا عن هذا الأمر، الفكر دوما يسبق القوة، أو هو الذي يتحكم في القوة المادية. أسترجع الآن ذكريات لي مع كتاب راسل "تاريخ الحكمة الغربية"، وكيف استطاع البرهنة على أن العالم هو مجرد أرقام.

طبعا يبقى رأيه الشخصي، هناك من يراه مجرد صور، أو كلمات، وهناك من يعتقد أنه غير موجود أصلا.

لكن ما يهمني هو كيف أننا في جميع الأحوال نحول العالم المادي إلى مجرد أفكار حتى نستطيع أن نستوعبه. إدراكنا لخطورة المعرفة ربما هو الذي يجعلنا نحتكرها. صحيح أن هذا الأمر يدل على الجانب السيئ فينا، لكن هو موجود على أي حال ولا يمكن إنكاره.

يعجبني حديث يقول: "من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار". لا يمكن حصر معنى العلم هنا في معناه الشرعي فقط، بل كل علم، ومن الطُّرَف المتعلقة بهذا الأمر، يحكى أن شيخا كان يحرس الطلبة بإحدى الجامعات في فترة الامتحانات، فإذا بالطلبة يسألونه الإجابة عن بعض الأسئلة، فيبادر بالإجابة غير مبال بقواعد الامتحان، وحينما يسأل عن سبب ذلك يجيب بالحديث أعلاه، ومن دون شك أن الطلبة كانوا أذكياء ويعرفون أن الشيخ لن يتوانى في الإجابة، فما كان من هيئة الجامعة إلا أن استبدلته. هذه القصة تشبه النكتة بالفعل، لكن لها بعد أخلاقي جميل.

هل فعلا كانت الحضارة الإسلامية لا تبخل بالعلم، أم ترى أن ما يردده المستشرقون صحيح، وذلك أن التعليم فيها كان طبقيا، وأن النخبة هي التي كانت تتعلم، بينما باقي أبناء الشعب لم يكن لهم حظ في التعليم، أو على الأقل إنهم لم يكن مسموحا لهم بأن يدرسوا بعض العلوم، والتي كانت تخول لهم تقلد الوظائف الراقية في المجتمع، على سبيل المثال مثل الطب، وصنعة الكتابة، وغيرها من الوظائف التي كانت تخول لأصحابها الوصول إلى مراكز عليا في الدولة.

نسبة التعليم في الحضارة الإسلامية لم تعرفها أي حضارة أخرى، وذلك خلاف المعهود والمتداول

هناك كتاب جميل طبع في سلسلة عالم المعرفة، يحمل اسم "الطفولة في التاريخ العالمي"، يتوصل صاحبه إلى أن نسبة التعليم في الحضارة الإسلامية لم تعرفها أي حضارة أخرى، وذلك خلاف المعهود والمتداول، ومن دون شك أن هذا رأي المستشرقين، من أن العلم في الحضارة الإسلامية كان منحصرا على النخبة، بل العكس، التعليم في الحضارة الإسلامية شهد ازدهارا منقطع النظير، وخير شهيد على ذلك هو هذه المؤسسات العلمية، والمدارس التي لا زالت تتحدى السنين والأعوام شاهدة على عبقرية الحضارة الإسلامية، فكيف لا وأقدم جامعة شهدتها الحضارة الإسلامية.

ذات يوم لفت انتباهي اسم العالم المسلم أبو بكر الباقلاني، والذي كان آية زمانه في الذكاء، والذي ما زالت مؤلفاته شاهدة على ذلك. اسم الباقلاني تذكر المصادر أنه سمي بذلك لأن أباه كان يبيع البقول، ولا شك أن هذه مهنة لم يكن يمارسها علية القوم، بل هي كانت مهنة عامة الناس، ومع ذلك فإن هذا العالم المسلم استطاع أن يخلد اسمه في التاريخ، وذلك فقط لأنه كان ذكيا ولديه إرادة، فثابر إلى أن حقق ما كان يتمناه. من بعد ذلك، استحضرت مجموعة من الأعلام الآخرين، الكسائي، الغزالي... وغيرهم كثير، وهذا ما خلد مقولة لولا أبناء الفقراء لضاع العلم.

هذا الأمر طبعا مخالف الآن، حيث أصبح العلم عبارة عن اقتصاد، له ارتباط وثيق بالعالم المادي، بل حتى فكرة تعميم التعليم وظهور المدرسة العمومية لم تأت إلا كخادمة لهذا الهدف، أي إيجاد موظفين لسوق الشغل، ومن ثم أصبحت تخصصات مقتصرة على فئة دون غيرها، كما أن بعض العلوم التي تتيح الوصول إلى المناصب العليا أصبح يدرسها فقط من أباؤهم يستطيعون دفع مصاريف التعليم، وهؤلاء من دون شك هم الذين يتولون تلك المناصب في الوقت الحالي، في إطار رأسملة التعليم، وتحويله إلى منتوج تتحدد قيمته حسب قانون العرض والطلب.

أعتقد ما أحوجنا اليوم لاستحضار القيم، التي نادى بها العلماء المسلمون، والتي تربط الفرص بكفاءات الأشخاص، وليس بمن يستطيعون دفع ثمن ولوج أرقى الجامعات، وما أحوجنا أيضا كأفراد إلى استحضار القيم المبثوثة في قصة الخضر مع موسى، والتي كنا نبدأ بها عامنا الدراسي.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".