كيف تنجو الأمم؟

13 اغسطس 2024
+ الخط -

في كلِّ مرّةٍ يُواجه فيها العالم العربي مشكلةً جديدة يقف حائرًا، يسألُ عن المسارات التي عليه أن يتخذ ويسير فيها. ولندقّق أكثر في العبارة، فالذي يقف حائرًا ليس صنّاع القرار في الحقيقة، بل أولئك الذين من المفروض فيهم أن يكونوا مُوجِّهين للشعوب، وأقصد هنا المثقفين، المفكرين، الفلاسفة، العلماء... أي من يصنعون وعي الشعوب. وإذا ما أردت معرفة من هم بالضبط، فما عليك سوى قراءة التدوينات والمقالات والتحليلات التي تُكتب الآن بشأن ما يحصل في جسم العالم العربي، دقّق في التعبيرات، وحلّل المضمون جيّدًا؛ هل هناك رؤية موحّدة، أو على الأقل تستند إلى مضمونٍ موحّدٌ بشأن ما يحصل؟ وللأسف، إنّ هذا التخبّط يصيب الناس بالإحباط، أكثر من هولِ الكوارث التي تنزل بهم.

أين الخلل إذن؟ لم لا يزالُ هؤلاء المفكرون حائرين في شأن ما يحدث، ولنفهم الوضع أكثر، نعقد مقارنة بشأن ما يحدث على سبيل المثال في أوروبا، أو المفروض أنّه يحصل فيها، وأقصد بطبيعة الحال الحرب الروسية ضدّ أوكرانيا. وهنا، لا يهمني تحليل الظروف ولا الحيثيات التي نشأت فيها هذه الحرب، بل ما يهمني هو موقف المفكرين داخل الاتحاد الأوروبي بدايةً، ثمّ في أميركا، جرّاء ما يحصل هناك، حيث الكلّ مُجمع على أنّ هذا مُنكر، وأنّ ذلك تخطيط بهدف محاربة القيم الغربية، حيث يخاطب المفكرون الناسَ قائلين: هذه الحريّة التي تنعمون بها، هي جزء من منظومة قيم تُميّز العالم الغربي، وإذا ما أردتم الحفاظ عليها، فعليكم بمحاربة هذا العدو الذي جاء ليهدّد كيانكم.

وهؤلاء، مع اختلاف ألوانهم، فإنّهم عندما يصبحون مُهدّدين، يلجؤون إلى الغريزة بغية الدفاع عن أنفسهم، وبالتالي يستبيحون كلّ شيء، ويتنكرون لجميع القيم. ولا يفوتنا هنا أن نلفت النظر إلى أنّ مفكريهم أوّل من أشار إلى مكامن الخلل في منظوماتهم الثقافية، ليبادروا إلى ترميم كيانهم من جديد، ولعلّ هذا سرّ قوّتهم. وما يهمني هنا، هو كيف يلتحم هؤلاء على موقفٍ واحدٍ، واضحٍ وصريح. كما أنّ ذكاء إسرائيل يكمن في كونها استطاعت أن تقنع هذا العالم الغربي بأنّها جزء منه، وبالتالي هي حاملة لثقافته، ومصيرها من مصير ثقافته.

متى يحين الوقت لأن نمتلك الجرأة ونتطلّع إلى أنفسنا في مرآة الحقيقة، ونقول هذا نحن

هذا يعني أنّ هناك أسسًا، خطاباً قوياً يلتحم الناس حوله حينما تُواجههم المصائب، وهذا ما يضمن لهم النجاة. فما هذا الخطاب؟  يمكنني القول إنّه الأخذ بالأسباب الطبيعية، إنّه فهم عميق لقواعد سير الكون/ العالم، إنّه فهم لطبيعة المادة والزمان، هذا هو لبّ خطاب هؤلاء. وهذا الخطاب يمثّل أفضل تفسير ممكن حتى الآن، والعبارة التي وضعتها في العنوان، مأخوذة من أستاذ العلوم السياسية الأميركي، جون ميرشايمر، إذ يقول إنّ الدول/ الأمم القويّة هي تلك التي تستطيع تجاوز محنتها، ومشاكلها، لا يهم كيف تنجو، في إشارةٍ إلى نظريّة داروين بكلّ تأكيد، القوي هو من يستطيع النجاة.

وهنا يمكن القول إنّ فهم الغرب لا يعني فهم قرارات أو شعارات، أو حتى تصريحات رؤساء دوله، بل يعني البحث في الجبل الجليدي لهذا العالم الذي لا يطفو على السطح، البحث في ذلك العالم الخفي الذي تراكم عبر السنين؛ كيف يفكر؟ كما أنّ الحل بالنسبة للعالم العربي لا يكمن في التباهي بتطبيق قيم هذا الكائن حرفيًّا، إنّه يكمن في الغوص في مكامن الذات، في لاوعيها أيضًا، ومن ثمّ محاولة تجاوز مطبّاتنا.

أيضًا، الإشكال لا يكمن في الجانب المادي والتقني، ففي اعتقادي، إنّ هذا الإشكال هو مجرّد مرآة للإشكال الحقيقي، نحن عندنا معوقات، ينبغي أن نعرف ذلك، ينبغي أن نتحلّى بالجرأة على تجاوزها، وأن نأخذ بالأسباب الطبيعية، بدل أن نظلّ نمارس الدجل على الناس ونرمي بهم إلى الهلاك.

تنجو الدول بتغلّبها على أوهام الكهف، وأوهام المدينة أيضًا، بإدراكها نفسها حقيقة، بامتلاكها معرفةٍ حقيقيّةٍ لذاتها، لا بتشبّثها بقيمٍ لا تشبهها، ولا بتعليق أملها على أبطال من ورق، لكن للأسف؛ متى يحين الوقت لأن نمتلك الجرأة ونتطلّع إلى أنفسنا في مرآة الحقيقة، ونقول هذا نحن، مجرّد بشر.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".