"روح" ... مسلسل يستحق المشاهدة

19 مارس 2024
+ الخط -

أنا من العاشقين للسينما، وأقصد السينما بمعناها الواسع. فأنا أعشق الأعمال الفنية تلك التي تغوص في عمق الإنسان وقضاياه، وأكره الأعمال التجارية التافهة. ولا يشك أحد منّا اليوم في مدى الدور الذي تلعبه هذه الأعمال، رغم أنّنا نعيش في زمن التكنولوجيا المتطوّرة، إلا أنّ صنّاع الأفلام والمسلسلات ما زالوا يواكبون ذلك، بل إنّ بعض المنصات خلقت نمطًا ثقافيًا خاصًا بها، وجعلت منه تيارًا له مؤيدون ومعارضون، مثل "نتفليكس". فهذه المنصة ليست وسيلة للترفيه، بقدر ما هي أداة لصناعة وترويج نمط ثقافي معيّن، أصبح بعض المخرجين يتبنونه ويحاولون تقليده: العرق، الدين، الجنس، هذه مكوّنات جميع الخلطات التي تنتجها لا غير.

بخلافِ السنوات السابقة قرّرت هذا العام متابعة الأعمال الدرامية، وحينما تصفحت لائحة أهم المنتجات الدرامية التي ستعرض في هذا الشهر على القنوات العربية، لفت انتباهي بعض العناوين بداية، لكن هناك عملاً شدّ انتباهي أكثر، ولهذا قرّرت الكتابة عنه، حتى قبل أن يُعرض كاملًا، وذلك لأمرٍ وحيد، وهو فكرة العمل، والتي أعتقد أنّها تستحق التنويه، العمل الذي أقصد هو المسلسل العراقي "روح"، وهو من إخراج حسن حسني وتأليف محمد خماس.

المسلسل من صنف الدراما الاجتماعية، لا يهمني هنا، لا أحداثه، ولا شخصياته، بقدر ما يهمني الموضوع الذي سيسلّط الضوء عليه، وهم الأطفال ذوو القدرات الخاصة، هؤلاء الذين ما زلنا ننظر إليهم وكأنّهم عالة على المجتمع، كما أنّ وصمات العار ما زالت تلاحق كلّ الأسر التي لها مثل هؤلاء الأطفال تقريبًا. الغريب أنّني قبل مدّة كنت قد شاهدت وثائقيًا يحكي قصة النساء الحوامل اللواتي يُعانين من أثر الحرب، بسبب أنواع السموم التي تبقى في الهواء أو الماء أو التربة، والتي تنتقل إلى الأم فتؤثر على الأجنة. ولهذا، كانت جميع النساء الحوامل تقريبًا يذهبن للكشف خلال مرحلة بدايات تكوّن الجنين، مخافة أن يكون الجنين مشوّهًا، فيبادرن إلى إسقاطه، قبل أن يصبحن حديث كلّ لسان، فالأطفال ذوو القدرات الكاملة يجدون مشقة في إيجاد موطئ قدم لهم في هذا البلد (العراق)، فكيف بذوي القدرات الخاصة؟

ماهية الشخص ليست في جسده أو شكله، بقدر ما هي في روحه

العمل يتناول أحد أنواع الأمراض التي تصيب الأطفال في المرحلة الجينية، وهو ما يسمّى بمتلازمة داون، وتُشخص هذه الحالة بزيادة صبغي أثناء تكوّن الجنين، ولهذا تسمّى هذه الحالة بالتثلّث الصبغي. ويمكن قراءة تفاصيل أكثر عن أسباب هذا المرض، وما يهم هنا، هو أنّ الإشكال في هذه الحالة يكون في المرحلة الأولى لتكوّن الجنين، أي على مستوى الصبغيات، وهذا يعني أنّ هذا الطفل ستكون له قدرات محدودة، كما أنّه على مستوى الشكل والحجم سيكون مختلفًا أيضًا، وهذه الأمور كافية لتجعله يعاني، إذ إنّه سيجد صعوبة في الاندماج في المجتمع، ومنها الدراسة أيضًا، مما يعني تكلفة مضاعفة ومراقبة واهتمام كبيرين، وكما أسلفت، فإن طفلاً بهذا الشكل غير مرغوب فيه ربّما، ولهذا أعجبني أنّ منتجي الفيلم وسموه بـ "روح".

هذا الطفل إذا قيّمناه بجسده فإنه عبء فعلاً، لكن إن نظرنا له على أنّه روح، هنا ربما يختلف الأمر، وأعتقد أنّ هذا الأمر هو المهم في ثقافتنا وديننا أيضاً، أي أنّ ماهية الشخص ليست في جسده أو شكله، بقدر ما هي في روحه، فهي الجوهر المحدّد للإنسان، وغيره أيضاً، حتى وإن كانت شروط مثل العقل التي جعلها الفقهاء مناط التكليف، فذلك من حيث إنّ هذه الأمور ترتبط بها مسؤوليات اجتماعية، وليس معنى ذلك أنّ من ليس لهم هذا الأمر غير مرغوب بهم في المجتمع، بل الإنسان كُرّم من حيث نسبته إلى آدم، وآدم هو ذلك الكائن الذي امتاز عن غيره من المخلوقات بتلك النفخة العجيبة وهي الروح، وهذا هو السر العجيب في الإنسان الذي لم تستطع العلوم إلى اليوم أن تبرهن عليه، والتي تعالَج اليوم في العلوم تحت مسميّات الوعي، أو بعض الظواهر المرتبطة به، مثل افتراق تجربة الوعي عن الجسد.

ما أحوجنا اليوم إلى النظر إلى هؤلاء على أنّهم أرواح، وأنّهم مثلنا، نحن لنا مسؤوليات أكثر منهم فقط، ومنها الاهتمام بهم، وبهم نعرف مقدار النعمة التي نحن فيها.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".