القراءة والإجازات الصيفية

22 يوليو 2024
+ الخط -

هل فعلا القراءة والكتابة لهما وقت دون آخر، بمعنى هل يمكننا أن نحدد أوقاتاً معينة في السنة يمكن أن نخصصها للقراءة والكتابة، فيما تبقى أوقات أخرى مخصصة للعمل، وأخرى للاستجمام مثلاً؟ كثير من الناس يعتقد بهذا الأمر، أي إنه يرى أن القراءة والكتابة هما مثل مهنة معينة، يمكن أن تمارسهما متى تشاء وتتخلى عنهما متى تشاء، كما أنه يمكنك أن تستبدلهما بأفضل منهما طبعاً إذا وجدت، هذا الأمر قد ينطبق على الأعمال الصحافية، كما أنه قد ينطبق على الأعمال الأكاديمية الجافة، لكنه بكل تأكيد لا ينطبق على الأعمال الفكرية الرصينة، والأعمال الإبداعية أيضاً، والسبب بسيط، لأن هذين يشبه أمرهما الإلهام، لا يمكنك التنبؤ متى أو كيف سيأتيانك.

لهذا كنت دوماً ما أطرح سؤالاً هل الكتّاب الكبار كانوا يأخذون إجازات؟ من خلال اطلاعي البسيط وجدت أن الجواب نعم، لكن تلك الإجازات لم تكن تخلياً بالكامل عن القراءة والكتابة، بل بالعكس كانوا يأخذون من الإجازات الصيفية فرصة للتأمل، فرصة لإعادة النظر أيضاً في كل ما كتبوا، أو في الأطروحات التي تبنوها، كل هذا يعني أمراً واحداً فقط، في مجالي القراءة والكتابة لا يتوقف الذهن عن العمل، بل يظل يعمل طوال العام، لأن الذهن الذي تشغله الأسئلة القلقة والمحرجة لا ينبغي له التوقف عن التفكير حتى يجد حلاً لها، أما الذهن الكسول الذي يتبع العمل النمطي، هذا قد يأخذ أوقات استراحة ربما تمتد شهوراً، بل سنوات، كما أنه قد يدخل في سبات يغيب معه أو يتوقف عن الإنتاج إلى الأبد.

في اعتقادي أن العمل الأكاديمي، مهما كانت له من ميزات، إلا أن سيئاته تكشف عن سوءاته، حيث إنه في اعتقادي يحول الذهن إلى ذهن كسول، بدل أن يجعله يتوقد ويشتعل بالأسئلة الحارقة، وذلك خلاف ما يحاول أن يصوره به معجبوه، العمل الأكاديمي المنظم ببروتكولاته يعلم ذهن الإنسان الكسل والنمطية في التفكير، وبذلك فهو يقلل من العملية الإبداعية، كما أنه يحد من الإنتاجية، لأن الذي يشتغل في السياق الأكاديمي يكون دوماً محاطاً ومكبلاً بمجموعة من القيود التي تعيقه عن الإبداع.

العمل الأكاديمي المنظم ببروتكولاته يعلم ذهن الإنسان الكسل والنمطية في التفكير، وبذلك فهو يقلل من العملية الإبداعية

وما دام أن الإنتاج الأكاديمي لا يشعر الإنسان بأي متعة، لأنه عمل روتيني، فإن الإنسان يفقد الشغف، ولا تعود القراءة أو الكتابة تمثلان له إلا وسائل لجلب الشهرة أو الترقية، أو الحصول على الأموال، أي أنها تصبح مهنة كباقي المهن الأخرى، ومن ثم يحق لمن يمارس هذا النوع من القراءة والتفكير أن يأخذ عطلة، كما أنه يحق له أن يوقف ذهنه عن العمل حين يتقاعد، وهذا ما يحصل في كثير من الأحيان.

هناك ظاهرة غريبة في العالم العربي، ليس لدي معطيات دقيقة عنها، أرأيتم كيف أني مقيد ولا أريد الخروج عن الإطار، الإطار الأكاديمي يقول لا تتحدث إذا لم تحصل على معطيات دقيقة، مع علم الجميع أن هذه المعطيات قد تشوبها الشوائب مثل باقي عمليات التفكير الأخرى، بل قد تكون مجرد الملاحظة أو الحدس أفضل منها، لكن ليس هذا هو موضوع هذا المقال، آسف عن الاستطراد، وأعود إلى الظاهرة الغريبة في العالم العربي، أن أكثر المبدعين في العالم العربي لا ينتمون إلى الوسط الأكاديمي، كما أن المنتمين له معظمهم لا ينتج شيئاً، وقليلون هم أولئك الذين استطاعوا التوفيق بين هذا وذاك، بل أستطيع أن أقول إن ظاهرة المبدعين أصحاب المشاريع الكبرى، وأصحاب الأسئلة المزعجة قد توارى طيفهم مع فشو ظاهرة الأكاديميين أصحاب ربطات العنق، والهندام المنمق، غير أنهم لا يحسنون صياغة جملة سليمة، كما أنهم معادون للقراءة بشكل عجيب.

أي نعم لا تتعجب من هذا الأمر، كما أسلفت هؤلاء لا يحبون القراءة، بل لا يفهمون معناها ولا قيمتها، إنهم يحفظون المصطلحات حتى يتشدقوا بها، يدعون أنهم أصحاب مناهج، وما هم في الحقيقة إلا أصحاب قرائح عقيمة، وأقلام جافة، وحياة بائسة مملة، كم هم مقرفون، إنهم ينغمسون في تخصص معين دقيق، يلمون بجميع مصطلحاته يحفظونها وكأنها الفاتحة حتى يستطيعوا الحصول على شهادة تثبت لهم تفوقهم أو اجتيازهم الخطوات المرسومة للحصول عليها، بعد ذلك يتقاعدون، هؤلاء يحق لهم أخذ إجازة صيفية.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".