محاورة: مأزق الهوية في العالم المعاصر
(هذا النص هو الأوّل من أربعة نصوص، تشكل بمجموعها محاورة بين الكاتب والباحث ماهر مسعود والكاتب والمترجم شريف مبروكي، وتتمحور حول مسألة الهوية وإشكالاتها في العالم المعاصر).
تخلق الحياة المعاصرة بتعقيدها التكنولوجي وسرعة تغيّراتها وكثافة ضغوطها المعولمة أزمة هوية عميقة ومركّبة بالمعنى الوجودي للأفراد في كلّ مكان تقريباً. لكن مأزق الهوية الفردي لا يمكن فهمه دون فهم اندراجه في نطاق أزمات أوسع تطاول البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات. فضمن أنظمة الاجتماع السياسي الراهنة باتت تتداخل أزمة ما سمّاه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو مجتمعات السيادة (كحال مجتمعاتنا)، مع أزمة مجتمعات الانضباط (الصين نموذجاً)، مع أزمة ما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز مجتمعات التحكّم في الفضاء المفتوح (كما هو الأمر في الديمقراطيات الغربية). وبفعل سيطرة التكنولوجيا والتواصل الرقمي على مستوى العالم، بتنا نعيش في ما يعتبره الفيلسوف الألماني/الكوري الجنوبي المعاصر بيونغ شول هان سجناً عالمياً أو "Global Panopticon"، يكون فيه الجميع تحت المراقبة والتحكّم. فمن تفرّقهم الجغرافيا والتاريخ تجمعهم الميديا والإنترنت والحروب والإرهاب والأزمة البيئية، ومن تفصلهم حدود الواقع الفعلي تعيد وصلهم خرائط الواقع الافتراضي.
يتولى جهاز السلطة في نموذج مجتمعات السيادة مسألة تقرير الحياة والموت، ويحدّد المسموح والممنوع في سلوك أفراده، بينما يُضبط الأفراد في نموذج مجتمعات الانضباط ضمن حلقات مغلقة، مثل العائلة والمدرسة والمصنع والسجن والثكنة العسكرية. وأمّا في نموذج مجتمعات التحكّم، فتنتشر السلطة جذمورياً في أدق تفاصيل الحياة وتنقل الجميع إلى فضاءات واسعة من الاعتقال غير الفيزيائي، فينوخ الأفراد تحت حمل الضغط النفسي الهائل الذي يولّده العيش في "مجتمع الإنجاز"، حيث بات الاكتئاب هو مرض العصر، وحيث لم يعد العنف، سلبياً أو خارجياً أو موّجهاً نحو آخر نقوم بنفيه، بل بات مخفياً تحت ستار الإيجابية، وموّجهاً نحو الداخل، ومن هنا ارتباطه بالنرجسية المنتشرة مثل الوباء في مجتمعات الفرجة المعاصرة.
مأزق الهوية الفردي لا يمكن فهمه دون فهم اندراجه في نطاق أزمات أوسع تطال البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات
فضاء الممكنات الذي تتمازج فيه النماذج السابقة بعضها مع بعض يخلق وضعاً معمّماً من الغموض والالتباس، ويترك الأفراد في حالة من الضياع وغياب الاتجاهات والوجهات، فيفقد الناس أمان الانتماء الذي كانت تمنحه الهويات القديمة (سواء كانت هويات وطنية أو قومية أو دينية، حزبية أو وظيفية أو حتى جندرية)، ويغرق الأفراد في قلق التهديد الدائم الذي ينتجه التغيير السريع، وانعدام الرؤية الذي يخترق نمط الحياة المعاصرة على كلّ المستويات.
التفكير في إشكال الهوية على هذا النحو المركّب يدفعنا للتساؤل إن كان البحث عن هويات مستقرّة وثابتة هو الحل، وإن كانت العودة للروابط العائلية والعشائرية والطائفية والدينية أو القومية هي الترياق، أو إن كان الانغماس في سياسات الهوية وأشكال الجندرة و"القبليّة المعاصرة" هو ما يعيد الأمان المفقود، كما يجعلنا نفكر إن كان الرثاء لأحوالنا بعد ضياع الهويات القديمة "في الزمن الجميل"، ومن ثم الانغماس في أوجه الشكوى والعدمية هو الموقف الصحيح! هل علينا إدارة ظهرنا للعالم والالتفات لشؤوننا الخاصة و"ممارسة اليوغا" بحثاً عن خلاصٍ فرديٍّ لا يأتي، أم انتظار الخلاص الجماعي الذي وعدت بها الأديان والأيديولوجيات القديمة؟
ليست هناك إجابة أحادية وشافية لتلك الأسئلة، لكن نقاشاً نقدياً لبعض الطروحات الفلسفية المعاصرة قد يساهم في تفعيل الفكر وتوليد الحلول المبتكرة. ومن أهم تلك الطروحات ما كتبه بيونغ شول هان حول أنّ الحرية الفردية التي بُنَي عليها الأساس المتين للمجتمع الحديث تحوّلت هي ذاتها؛ تحت ضغط الرأسمالية، إلى عبودية أسوأ من جميع أشكال العبودية في التاريخ. فما ناضل الإنسان للتحرّر من عبوديته عبر التاريخ، تمثّل دائماً بآخر خارج الذات، آخر ينفيها أو يضطهدها أو يتسيّد عليها (الآخرون هم الجحيم، يقول سارتر). لكن ما بات يستعبد الذات اليوم لا يقع خارجها، بل بات مزروعاً في داخلها. أصبح كلٌ منّا مشروع نفسه التي عليه تسويقها مثل ما تُسوَّق المنتجات، كل منّا هو السيّد والعبد بالمعنى الهيغلي في الوقت ذاته. ولذلك يؤكد هان أنّ الإنسان المعاصر هو تمثيل فعلي لما يدعوه: "الهوموليبر" (Homo Liber)، ويقصد به الإنسان الحر والمُستباح في الوقت ذاته. ويجمع هان في هذا المفهوم بين الإنسان الأخير؛ الذي يظن نفسه حرّاً، عند نيتشه والإنسان المستباح "هوموساكر" (homo sacer) عند أغامبين في قالب واحد.
من تفرّقهم الجغرافيا والتاريخ تجمعهم الميديا والإنترنت والحروب والإرهاب والأزمة البيئية، ومن تفصلهم حدود الواقع الفعلي تعيد وصلهم خرائط الواقع الافتراضي
في كتابه "طوبولوجيا العنف"، يطرح شول هان نقداً ضمنياً لجيل دولوز الذي قدّمت فلسفته انتقالاً في صورة الفكر المعاصر من الـ"يجب عليك" (You should) إلى الـ"ربما يمكنك" (You may can)، ويعتبر هان أن تلك الـ"يمكنك" تمثّل عنف الإيجابية، وهو العنف الموّجه إلى الذات لمعاقبتها على تقصيرها ودفعها نحو الإنجاز والتراكم. التراكم الشبيه بتراكم رأس المال، الذي يصبّ في المحصلة في خدمة الرأسمالية. لكن ذلك النقد الضمني تصدر عنه مطالبة هامسة للعودة إلى النفي والسلبية، إلى الجماعية وقيم العائلة، وهي مطالبة تضعنا مباشرة في طريق مسدود، باب موصد للثنائية الديكارتية. فما يغيب عن رؤية هان يتجلّى في أنه، سواء كان الواقع الاجتماعي السياسي رأسماليا أو إقطاعيا، إيجابيا أو سلبيا، فإنّ الأقلية "القلّة" هي دائماً من يقاوم في كلّ العصور وكلّ الأزمنة، وهنا لا يعود السؤال: ما هو النظام الأكثر قسوة وما هو الأقل تسامحاً؟ لأنّه في كلّ نظام ستتواجه على نحو مستمر عناصر التحرّر مع عناصر الاستعباد. وهذا الفهم يجعلنا نرى الأمر بصورة مختلفة، فمشاكلنا الفردية والجمعية، اليوم، لا تعد كبيرة إلا بالقياس إلى من سبقونا، لكنها على قياسنا، نحن خلقناها، ونحن من علينا ابتكار الطرق الجديدة لحلّها. ليست مشكلات البيئة والجندر واليمين المتطرف والجنون التكنولوجي والحروب والثورات والإرهاب إلا مشاكل على قياسنا، ليست نهايتنا، بل تحدّياتنا التي لن ينفع معها الرثاء، ولا العودة إلى الماضي الرومانسي للنفي والهويات المغلقة. وإن كانت العولمة هي السجن العالمي، فمهمة الفلسفة؛ والفن أيضاً، هي إيجاد "خطوط الانفلات" والبحث عن الثقوب والثغرات والاختراقات، وخلق فضاء الممكنات الذي يحيلنا إلى نمطٍ جديدٍ للمقاومة وابتكار الحلول.
قد يبدو مأزق الهوية للوهلة الأولى وكأنه ماكينة لتوليد التعاسة، فيتخبّط الناس بحثاً عن ذات لا يجدونها ويملؤهم الحنين إلى فردوس طفلي ضائع. تصبح الهوية تمثيلاً للكمال المنشود وفقدانها نقصاً جوهرياً في الحياة، وفي معنى الحياة. وتزيد التعاسة عندما تنهكنا الخيارات المتعدّدة، فنعمل وكأنّنا بلا خيار، وتصبح حريتنا هي مشكلتنا بعد أن كانت خلاصنا وكانت وجهتنا. ولكن عندما نفكر عميقاً في ذلك كلّه، سنجد أنّنا لم نعد نعرف الوجهة بالضبط نتيجة احتكامنا لفكرة النقص، نريد أن نأخذ الخيار الأمثل الذي يملأ فراغنا ونقصنا الوجودي دون أن نعلم أنّ ذلك النقص هو بطبيعته نقص أبدي، لا يمتلئ. هذا طريق كئيب ومولّد للخيبة والتعاسة، طريق يجعلنا نقضي أعمارنا ونحن نركض خلف القمر.
أصبح كلٌ منّا مشروع نفسه التي عليه تسويقها مثلما تُسوَّق المنتجات، كل منّا هو السيّد والعبد بالمعنى الهيغلي في الوقت ذاته
عند التفكير في تعقيد العالم المعاصر، والأصوات العالية للشكوى والمخاوف والتحذيرات، ستظن مباشرة أنّ البساطة هي الحل، فتهرع مباشرة إلى أمثال جوردان بيترسون لتأخذ بعض المهدئات الإنجيلية بلا إنجيل و(أحياناً معه). لكن ما يُغفل في ذلك الهروب الكبير نحو الخلاص ونحو التهدئة هو الحقيقة القائلة إنّ المعقد هو البسيط عندما نفككه إلى عناصره الأولية، وعندما ننظر إليه من وجهة نظر محلية (على طريقة ما فعله ريمان في هندسة المكان اللاإقليدي)، أي عندما ننظر إليه من وجهة نظر الحياة في ما وراء الخير والشر، الحياة دون أحكام المتعالي أو الأحكام المسبقة لما يجب أن تكون عليه الحياة. عندها سيصبح كلّ شيء مبرّراً لأنه بالضبط لا تبرير له.
يقول بعض البيولوجيين إنّ الحياة نفسها تقوم ضد الفيزياء، لأنّ الحياة هي الحركة، والحركة تعمل ضد الميل الفيزيائي الدائم نحو السكون (الماء يتجه عفوياً نحو أدنى نقطة على سطح الأرض ليستقر). الحياة ذاتها إذاً مقاوَمة للموت، مقاوَمة للسكون. وليس بحثنا الدائب عن هوية ثابتة إلا توّجهاً لاواعياً نحو السكون والموت. وبهذا المعنى، لن يكون ضياع الهوية هو المحزن، بل إيجادها والارتكان إلى ثباتها واكتمالها وامتناع تجديدها. فلا تُعرَّف الحياة بالهوية والثبات والكينونة إلا لتفقد تعريفها في حركة الاختلاف. الحياة حركة وصيرورة لا تعرف التوقف، والحركة هي إنتاج الاختلاف وصناعة التأثير والتغيير في وجودنا ووجود من نعيش بينهم، وهذا يعني في ما يعنيه مقاومة للموت وإثباتا للحياة وحبّاً للقدر (Amor fati) كما كان يقول الرواقيون. كما أنّ الحياة لا توجد في الهويات القديمة والأصول الماضية ولا في نهاية الطريق، الحياة هي الطريق، وعلى الطريق إلى...، دون أن يكون لتلك الـ"إلى" أي خاتمة، وخصوصاً، أي خاتمة سعيدة.