محاورة: عن اختراق الهوية بالاختلاف
(هذا النص هو الثالث من أربعة نصوص، تشكّل بمجموعها محاورة بين الكاتب والباحث ماهر مسعود والكاتب والمترجم شريف مبروكي، وتتمحور حول مسألة الهوية وإشكالاتها في العالم المعاصر. يمكن قراءة النص الأول على هذا الرابط، والثاني على هذا الرابط).
على الرغم من اللغة الفلسفية العالية لمقال الأستاذ شريف مبروكي، إلا أنّ الأفكار المطروحة فيه والمعاني التي أراد الدفاع عنها لم تكن فلسفية بما فيه الكفاية. فابتداء من الفكرة الأساسية للمقال، وهي اعتبار الهوية تعيش أزمة (وحتعدّي)، وليست في مأزق عميق، ذلك أنّ المأزق "يوحي بانتفاء الحل والوقوع في طريق مسدود"، سنلاحظ مباشرة كلاسيكية هذا التقويم أو الحكم الفلسفي. فالهوية ضمن هذا الطرح ستبقى بخيرٍ مفهوماً متعالياً ولا حاجة إلى القلق بشأنها، لأنّ ما تمرّ به هو مجرّد أزمةٍ عابرة و"ضرورية لإعادة النظر في ذاتها، في مجراها، وفي صيرورتها.."، لكن تلك الأزمة لن تؤثر على جوهرها، ولن تحوّلها إلى صدعٍ وجودي يخترق الوجود ذاته للكيانات الفردية والجماعية، بل ستُصيب أعراضها الزائلة بطبيعتها فقط، مثلما هو حال الأعراض دائماً في ما يخص الجواهر الأصلية.
مفهوم الهوية في طرح مبروكي إذاً أفلاطوني بالكامل؛ ومن هنا كلاسيكيته، فمِثل مُثُل أفلاطون التي لا يصيبها أيّ خللٍ مهما تعدّدت نُسخها، ومهما لاقته تلك النسخ من "أزمات" وأمراض وموت، كذلك مفهوم الهوية كما يعالجه الكاتب، فالأزمة تصيب النسخ "السوسيوثقافية" للهُويات المعاصرة، لكنها لن تصيب الأصل ولن تضعه في "مأزق" يطاول الجوهر المتعالي للهُوية. ولذلك لم يكن غريباً أن يستخدم مبروكي؛ مُدعّماً بهايدغر، كلمة "اللغز" في وصف الهُوية، فأفلاطون ذاته لطالما استعان بالأسطورة عندما أراد تفسير نظرية المُثل وتبريرها. وتلك الأسطرة و"التلغيز" لها مهمة أساسية في الفكر المجرّد من جهة، وفي الفعل السياسي من جهة أخرى، يمكن وصفها بالنزعة "المثالية" على مستوى الفكر والنزعة "المحافِظة" على المستوى السياسي والثقافي. كما أنّ من مفارقات تلك النزعة، أنّها تستند أصلاً إلى الحسّ العام والمشترك في قولها الفلسفي: "هل نستطيع أن نكون وتتحقق إنسانيتنا وفرديتنا المنشودة بدون هوية نقيم فيها ونتأسس عليها؟" أو "من منّا لا يشعر بأنّ لديه هوية مستمرة عبر ديمومة الزمان؟"، لكي تبني موقفاً متعالياً للفكر ينكر أول ما ينكر الحس العام ذاته الذي تمّ الاستناد إليه. فالهوية بحسب هذا الرأي ستبقى لغزاً أنطولوجياً للعقل الخالص لن يتمكّن من فهمه العوام والناس العاديين على رغم شعورهم بحضوره، ولذلك عليهم التعامل معه مثل لغزٍ إلهي حاضر رغم غيابه؛ ومن هنا احتفال مبروكي بتعبير بول ريكور في وصف الهوية بأنها "حضورٌ للغياب". (فكّر في تشابه هذا الطرح أو تلاقيه في العموم مع الصيغة التي تقوم عليها كلّ الديكتاتوريات، فلا تقوم الديكتاتورية ولا يخاطب الطُغاة في كلّ مكان إلا الحس العام و"روح الشعب" والهويات الجمعية لدى الناس والحشود، أولئك الناس الذين أوّل ما تقوم به أي ديكتاتورية هو تهميشهم والتعالي عليهم وعدم الاعتراف بأهليتهم لفهم السلطة أو لحكم أنفسهم). ومن هنا مصدر الروح المحافِظة لتلك النزعة الفكرية على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي. هل يمكننا القول إنّ "لغز" الهوية هو ما أوصل هايدغر نفسه (وبقفزة واحدة للدازاين) إلى حضن النازية؟
لا ينكر مبروكي مفهوم الاختلاف بل يتبناه بقوّة، لكنه يختم بذلك السؤال الاستنكاري الذي يحطّم دفعة واحدة روح السؤال وقوّته من الداخل، ويجعل الإجابة عنه بلا معنى؛ كونها مُتضمّنة أصلاً في السؤال ذاته، فيقول: "إذا كانت الحياة حركةً وصيرورة وصناعة اختلاف، وهذا قول صحيح، ولكن حركة وصيرورة واختلاف من إزاء من أو إزاء ماذا؟". والجواب المضمر الذي لا مهرب منه سيكون: إنها بالتأكيد حركة الهُويات الثابتة بإزاء بعضها واختلافها، وهل تركت لنا مجالاً لقول شيء مختلف؟ وهنا لا بد من توضيح مسألة في غاية الأهمية والالتباس في وقتٍ واحد، وهي أنّ الاختلاف المطروح على النحو الذي قدّمه مبروكي ليس اختلافاً في الحقيقة، بل مجرّد نقص في الهوية، نقص في التشابه (كان أرسطو يسميه nuisance، أي إزعاج) فالهُوية ضمن هذا المنطق هي الأصل، وهي ما يعود؛ أو يُعاد، إليه ذلك النوع من الاختلاف لكي يكمل نقصه بأن يصبح هوية مكتملة، ثم إذا كنّا مختلفين كلٌّ منّا بإزاء الآخر فذلك يعتمد على أنّنا في الأصل نملك هوية، متشابهين، واختلافنا هو نقصنا الذي تكمله الهوية.
تسرح الفلسفة العربية وتمرح في عالم المجرّدات الثقافية الفارغة دون أي تشابك مع الواقع الفعلي "المعاش" أو تداخل مع محددات السلطة المسيطرة في المجتمع
لكن جواباً لا تقليدياً؛ بالأحرى لا إقليدياً، على ذلك السؤال سيكون كما يلي: إنّها حركة الأشياء وصيرورتها واختلافها بإزاء نفسها في الدرجة الأولى قبل أن يكون بعضها بإزاء بعض، فالاختلاف ضارب في أعماق كلّ هوية من داخلها وبإزاء نفسها بالمعنيين الواقعي والفعلي وليس بالمعنى الرمزي فقط. وبكلام آخر، الهوية ليست أصلاً لشيء، بل تتشكّل وتصبح هُوية بفعل التجميد، لا بفعل التجريد. نحن من يقوم بتجميد الحركة السائلة أو الصيرورة المتدفقة للكلمات والأشياء وإعطائها هوية لأجل الدراسة ولأسبابٍ عملية، وهذا شيء مشروع تماماً وضروري ولا خلاف عليه، لكن جميعنا يعلم أننا نحن والأشياء والكلمات في حركة مستمرة وتغيّر لا يمكن إيقافه ما دمنا موجودين في ديمومة الزمان. "كل شيء هو كثرة multiplicity" يقول جيل دولوز في كتابه العمدة "الاختلاف والتكرار". فمثلاً عندما نعطي هوية للرقم واحد فنحن نجمد هذا الرقم ثم نجرده لأغراض عملية، لكن جميعنا يعلم أنه يمكن تقسيم هذا الرقم إلى عددٍ لانهائي من الأرقام الكسرية. وعندما نقول إنّ لفلانٍ من الناس هُوية عربية على سبيل المثال، فنحن نتكلم في العمق عن تركيب وليس عن واحدية. فهل هذا الشخص عربي المولد أم اللغة أم القومية أم الدين أم الولاء أم الجينات؟ وإلى أيّ حدٍّ هويته "هوياته" متناقضة أو متوائمة، وأيّ منها هويته "الأصلية"؟
غالباً ما يتمّ الاعتراض على الصيغة المطروحة أعلاه بطريقة باتت معروفة ومُستخدمة في كلّ مكان تقريباً، وتنبني تلك الطريقة على الرعب من النسبية ورفع بطاقة النسبوية في وجوهنا. ولسان حالها ينطق "عن الهوى" كما يلي: إذا كانت الهويات مُخترقة بالاختلاف من الداخل والخارج، وكلّ شيء مختلف عن كلّ شيء، ألا يوقعنا ذلك في عدميّة النسبية الكاملة ويدفعنا نحو تعليق الحكم؟ ومثل هذا الخوف "المبرّر" هو غالباً ما دفع مُفكراً بحجم إلياس مرقص إلى أن يفعل مثل كانط ويحتمي بالمطلق ملجأً من النسبي لينتهي إلى القول: "من ليس لديه مُطلق يحوّل نسبيّه إلى مطلق، وذلكم هو الاستبداد"، وبحسب هذا المنطق إذاً، لا منابة عن العودة إلى المطلق ووضعه أساساً للفكر. ينسى عشّاق المطلق وأتباع مرقص أنّ هذا الكلام؛ وعلى الرغم من أنه كلام بليغ وطنّان، لكنه فارغ، لأنه يضعنا في دورة تبدأ بالمطلق وتنتهي إليه، تماماً مثلما كانت حال الروح المطلق عند هيغل والتي تبدأ بذاتها، ومن ثم تتدحرج فوق جدل السلب في التاريخ، ثم تعود إلى ذاتها في نهاية التاريخ.
ألم تفارق المعرفة بعد مطارق نيتشه ونسبية آينشتاين وتطورية داروين كل أشكال الجوهرانية والحقائق المطلقة وثبات الأنواع؟
ما لا تدركه تلك المخاوف الفلسفية؛ والشعبية أيضاً، هو أنّ الاختلاف لا يعني نسبية الحقيقة بالضرورة، بل حقيقة النسبي. وهذان أمران مختلفان تماماً، فالنسبي حقيقي حتى لو لم تكن الحقيقة نسبية. قد نتفق على حقيقة معينة ثم نجمدها ونضعها في قانون علمي أو دستور مكتوب على سبيل المثال، لكن علينا أن ندرك أنّ ذلك مجرّد اتفاق عملي وليس حقيقة مطلقة. فالنسبي حقيقي وواقعي، لكنه ليس الحقيقة بألف التعريف ولامِه. علينا التخلص من مطلقات الفكر إذا أردنا الانفتاح على ممكنات الواقع وحقائقه وتعدّداته. هل بقي مكان أو أهمية للمطلق بعد نسبية آينشتاين أو ثبات دائم للهويات بعد تطوّرية داروين؟
يمكننا وضع مُحدّدين تجريبيين للهوية هما: الانبثاق والتجميد. ويشكلان معاً أساساً محايثاً ينسف كلّ أشكال التجريد والتعالي الضاربة في ثقافة الهوية. ولكي نوضّح ما نقوله نضرب مثالاً فيزيائياً: تتشكل "هُوية" جزيء الماء H2O من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، وهذا يعني أولاً، تنبثق هوية الماء انبثاقاً emergence من اتحاد عنصرين مختلفين تماماً، وتشكّل بذاتها عنصراً جديداً لا يوجد في أي منهما وحده ولا بشكل سابق على اندماجهما. ثانياً، للعناصر التي تشكّل الماء خواصُّ مناقضة تماماً لهُوية الماء المتشكلة، فالأكسجين؛ مثل الهيدروجين، يساعد على الاشتعال ويلهب النار، في حين يفعل الماء العكس، أي يطفئ النار. ثالثاً، عند اللحظة الحرجة (الدرجة مئة) تتحوّل هُوية الماء نوعياً لتصبح بخاراً، وفي لحظة أخرى (الدرجة صفر) تتحوّل إلى هُوية جديدة هي الجليد. إذاً، تنبثق هُوية الماء الفعلي والواقعي انبثاقاً ولها تاريخ ولادة وتاريخ موت، وهي تتحوّل إلى هوية جديدة بالمطلق ومختلفة نوعياً نتيجة ظروف موضوعية (درجة الحرارة)، كما أنّ الثبات الذي تأخذه في مرحلة معينة (جليد، سائل، بخار) هو تجميد يحصل طبيعياً أو اصطناعياً وليس تجريداً يحصل داخل العقل الخالص.
ليست مشكلة الهوية مشكلة لغوية، بل إشكالية واقعية نعانيها ونعاينها وجودياً وسياسياً وثقافياً، ونحتاج إلى تفكيكها وإيجاد الطرق العملية لإعادة ترتيبها وتركيبها والتأقلم مع متغيّراتها
الآن، إذا طبّقنا ما قلناه عن الماء على هُوية الأفراد أو المجتمعات، فسنلاحظ أنّ رفع درجة حرارة المجتمعات (عبر الظلم والاضطهاد مثلاً) قد يؤدي إلى انفجارها وتغيّر هويتها بالكامل بحيث لا تعود قادرة على العيش في الهُوية القديمة حتى لو أرادت. كما أنّ تثبيت الهوية وامتناع الاختلاف؛ أو منعه، في مجتمع معيّن سيؤدي إلى جمود فكري وإنساني في ذلك المجتمع، أو تصحّر "جليدي" فيه يحرمه التطوّر والنمو ويشلّه بالتكرار. أمّا على المستوى الفردي، فيكفي بالمناسبة أن ترتفع درجة حرارة الجسم فوق الأربعين حتى يدخل المرء في الهذيان ويفقد هويته المعتادة والواعية والمستخدمة في الحياة اليومية. كما قد تؤدي زيادة الضغط النفسي والعصبي إلى الجنون، وهو ما لا يغيّر الإحساس بالهوية فحسب، بل وجودها الموضوعي. وبالمجمل تُغيّر تلك التحولات هُوية الأفراد فعلياً، وليس بأيّ معنى رمزي أو مجرّد أو متعالٍ.
يميل نص مبروكي إلى جعل اختلافنا حول مشكلة الهوية يبدو وكأنه خلاف لغوي، بل إلى جعل الهوية ذاتها تبدو مسألة لُغوية، وذلك مشياً على عادة فلسفات اللغة والتفكيك والهيرمونوطيقا التي سادت القرن العشرين. وربما أيضاً على عادة الفلسفة العربية المعاصرة بمجملها، حيث تسرح الفلسفة وتمرح في عالم المجرّدات الثقافية الفارغة دون أي تشابك مع الواقع الفعلي "المعاش" أو تداخل مع محدّدات السلطة المسيطرة في المجتمع. لكن هل بقي؛ بعد ميشيل فوكو، أي معنى لتلك الغنائيات المجرّدة في عالم المثل؟ ألم تصبح المعرفة خطاباً يحمل سلطة بذاته، خطاباً يقوّض ويفضح السلطة السائدة أحياناً، أو خطاباً يخدم عمليات التدجين الجماعية التي تسعى إليها السلطة في أحيان أخرى؟ ألم تفارق المعرفة بعد مطارق نيتشه ونسبية آينشتاين وتطوّرية داروين كلّ أشكال الجوهرانية والحقائق المطلقة وثبات الأنواع؟ ألم تصبح الفلسفة خلقاً للفكر وإنتاجاً للحقائق؛ وليست تمثيلاً للحقائق الأبدية، بعد جيل دولوز؟ ألم نتعب (نحن في العالم العربي) من الهُويات الأصلية "القاتلة" التي أوّل ما تستند إليه في أصالتها، وفي تعريف نفسها هو تأكيد اللغة المشتركة التي تأتي عادةً قبل "الأرض والتاريخ" وتؤبدهما؟ ليست مشكلة الهوية مشكلة لغوية، بل إشكالية واقعية نعانيها ونعاينها وجودياً وسياسياً وثقافياً، ونحتاج إلى تفكيكها وإيجاد الطرق العملية لإعادة ترتيبها وتركيبها والتأقلم مع متغيّراتها.