مجنون خارج العصفورية

09 مايو 2017
+ الخط -

حينما غنت الشحرورة الصبوحة "ع العصفورية" كانت تقصد أن العشق يجنن الإنسان ولا ينفع معه، بعد هذا، غير أن ينقلوه إلى مشفى المجانين (العصفورية) إسعافياً.

في سورية يسمى مشفى المجانين باسم المنطقة التي يقع فيها، ففي دمشق إذا شاهدوا رجلاً قد اختل عقله، بالعشق أو بغيره يقولون له: بودنا ناخدك ع "القصير"، وفي حلب يأخذون المجنون إلى (الدويرينة).

ذات مرة، بينما كنت أسافر مع الصديق الراحل الفنان عمر حجو إلى دمشق في سيارته إذ قال لي: أيش رأيك بكتابة مسرحية عن المجانين؟

فأجبته جرياً على عادتي في الاستجابة بحماس لأي مشروع يطرح عليّ: أنا جاهز.

قال: خليني أوضح لك الفكرة. في ناس ما عندهم أية لوثة عقلية، ولكن ظروفهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية تدفعهم إلى الجنون. وبما أن المسرح يتحمل بعض الحلول التخيلية، فإن بإمكانك أن تجعل أناساً آخرين يتقمصون حالة الجنون للهرب من مأزق حياتي ما، أو لتحقيق مصلحة ما. واحد، مثلاً، لا يمتلك مالاً يشتري به متطلبات البيت من لحوم وخضار ومازوت، ناهيك عن أنه مقصر في دفع أقساط التسليف الشعب والبنك العقاري والجمعيات التعاونية وأجور أطباء للأولاد وثمن أدوية وفواتير الماء والكهرباء والهاتف.. فإذا تظاهر بأنه مجنون لا يكون في وسع أهله إلا أن يسقطوا عنه جميع الواجبات، فينفد بريشه!

قلت له: والله فكرة باهرة.

قال: احلم علي، فالفكرة لم تنته بعد.

قلت: تفضل.

قال: أنا برأيي أن الجنون له علاقة مباشرة بموضوع الحرية. في لندن، كما تعلم، هناك ساحة شهيرة اسمها "البارك"، بمقدور أية جماعة أو فئة أو أفراد منظمة أن يقفوا في "البارك" ويقولوا ما يشاؤون ضد مَن يشاؤون، والإنكليز لا يعترضون على ذلك، بل ويؤيدونه، هادا أمر طبيعي. الشيء نفسه يحدث في مشفى المجانين الدويرينة.

قلت: أي والله صحيح. فالمجنون لا يؤاخذ.

قال: وهكذا نكون قد وصلنا إلى النقطة الحساسة في موضوعنا هذا.

قلت: ما هي؟

قال: بما أنك أديب وصحافي، وبما أنك لا تجرؤ على التعبير عن مكنونات روحك بسبب الرقابة والخوف من الاستدعاء والتحقيق، فأنا أقترح عليك أن ترافقني إلى العصفورية، وأنا أسلمك لهم على أنك قد جننت، وبمجرد ما تصبح في الداخل قف على حافة السور وقل ما يخطر ببالك، وأنا أكفل ألا يعترض سبيلك أحد!   



خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...