ما بين الخارج والداخل... "الحب أهم من الأكل"

12 نوفمبر 2022
+ الخط -

لم يعد الأمر قابلاً للتجاهل ولا الإنكار! نحن السوريين مقسومون ما بين داخل وخارج، والمقصود هنا الجغرافيا تحديداً.

لطالما اكتسبت الهدايا معاني كبيرة، رسائل حب ومحبة وتقدير وعرفان وواجب ورغبة بالمشاركة، لا يمكن أبداً ضبط معاني الهدايا ولا تصويبها، لكن ما بين الداخل والخارج تهشمّت صورة الهدية بشكل فعلي، وبات السوريون والسوريات في خضم علاقة جديدة مع الهدايا، علاقة إشكالية وجدلية وقيمية أيضاً.

منذ عشرين عاماً تتباهى إكرام بهدايا شقيقتها التي تعيش في أميركا، حتى بات الجميع يمتنع عن السؤال عن مصدر لباس إكرام وحقائبها ورائحة عطرها، لأنّ الجواب تحوّل لختم متداول منقوش عليه عبارة "كلّه من أميركا".

 تغيّرت الصورة الآن، وخاصة منذ عام 2018، حيث استُبدلت كلّ الهدايا النفيسة بعلب الأدوية والمكملات، الغذائية والفيتامينات... تحاول إكرام التبرير، تقسم أنّ لديها أطناناً من سراويل الجينز التي لم تجد نصيبها من اللبس، وتقسم بأنّ خزانتها ضاقت بالحقائب والمكياج والمطريات والعطور، لكن الحقيقة تقف على الجهة المقابلة مترصدة لادعاءات إكرام، وكأنها تهدّدها كلّ لحظة بالصراخ وكشف المستور.

بات السوريون والسوريات في خضم علاقة جديدة مع الهدايا، علاقة إشكالية وجدلية وقيمية أيضاً

 لعمر إكرام علاقة بتغيّر الهدايا، خاصة مع تراجع جودة الأدوية المحلية، وخاصة الكلس وفيتامين د وحبوب قصور الغدة الدرقية والمسكنات. والحقيقة هي أنّ إكرام عاجزة عن شراء الأدوية الأجنبية ذات الجودة المضمونة أولاً، ثم إنها باتت عاجزة فعلياً عن زيارة المقاهي مع زميلاتها لغياب الصديقات وسفرهن الدائم لخارج الحدود، ولعجزها عن دفع كلفة هذه الزيارات التي باتت خارج القدرة المالية لها ولكلّ أفراد الطبقة الوسطى، وهنا غابت الحاجة لمزيد من الملابس، وغابت الحاجة للتعطّر ضمن جدران البيت، إنه انقلاب حقيقي وحاد غيّر شكل العلاقة التبادلية مع العالم، وخاصة الخارجي منه. اللافت أنّ إكرام باتت تُوّزع الفائض من حبوبها، وتقسم علبة فائضة عن حاجتها على الجارات، والقريبات، ومن تبقى من صديقات، دون أن تنسى الإشارة إلى أنّ منحتها بالغة القيمة وتساوي مائة سروال جينز أو عبوة عطر أصلي وماركة.

يمكن الجزم بأنّ الخمس سنوات الماضية قد استبدلت سؤال: ماذا ترغبين؟ بماذا تحتاجين؟ وجدلية التغيير هنا ليست بفعل تغيّر الشرط العام، شخصياً ومكانياً فقط، بل وبتغيّر صورة أهل الداخل في أذهان أهل الخارج.

يقترح جاد أن يرسل لوالدته مبلغ مائة يورو شهرياً على أن تقسمها إلى عشرة أجزاء، لتقدّمها إلى شقيقاتها أو والدتها أو من تشاء، هذا عدا عن حصتها الشهرية من المصروف. ترفض أم جاد بشدّة وتبكي، تقذف عبارة قاسية بوجه ابنها، وتقول له: "شو شايفنا شحادين"، بمعنى أنّ العشرة يورو لا تساوي شيئاً بالنسبة لابنها وقد تكون قيمة وجبة لقطته.

تستدعي الحادثة هنا تحليلاً نفسياً للواقع ولردّ فعل الأم، وترى الغالبية أنّ تصرّف جاد إيجابي وعملي وله قيمة نفعية، لكن الاعتراف بالواقع والأصح الاعتراف بحدّة الفرق ما بين أهل الداخل وأهل الخارج يستدعي غضب الأم وشعورها بالاستخفاف أو القهر من مبادرة ابنها، وهنا يكمن جوهر مشكلة حقيقية تتجذّر يوماً يعد يوم، لتصبح سداً يحول بين أهل الداخل وأهل الخارج، سداً يهشّم الصورة الأصيلة لكلّ طرف عن الآخر في الطرف المقابل.

من قال إنّ المنطق والإيجابية والنفعية المباشرة والظاهرة لا تقض مضاجع الأمهات وتكسر قلوبهن؟ لذلك باتت الهدية أو الأعطية تستدعي سيلاً من ردود الفعل الغاضبة أو الرافضة وربما المرحّبة، لكنها تتطلب مساراً جديداً من التفاهمات المباشرة كي تؤدي الغرض منها، ولا تتحوّل إلى جرح أو حجّة للغضب والعتب والقطيعة.

هي الحرب، تعرّي البشر من أوراق بالية وصفراء ظنّوها تحميهم

قرّرت لونا أن تهدي والدها جهازاً حديثاً يدوياً للتدليك، لأنها تعرف ما يعاني منه من آلام التشنج العضلي، وعندما عرف الأب قيمة ثمن الجهاز صرخ في وجه ابنته معاتباً وقائلاً: "إنّ ثمنه يساوي مصروف شهر كامل!". تضاربت وجهات النظر هنا، لم يعد الموضوع مجرّد عتب، بل تحوّل بفعل جدلية الداخل والخارج، وتصوّر كلّ طرف عن معنى الخدمات والرفاهية والحقوق الفردية إلى اختلاف حدّي وجذري في معنى وظيفة النقد، وفي معنى مبرّر الإنفاق على النفس، وربما على شكل وجدوى الحياة ذاتها. 

هي الحرب، تعرّي البشر من أوراق بالية وصفراء ظنّوها تحميهم، وجدوا أنفسهم فجأة مع سؤال جديد: ماذا تحتاجون؟ السؤال هنا ليس لتلبية الاحتياج فقط! فحبوب الكلس موجودة هنا على ضفة الحرب، لكنها بلا جدوى، غالية الثمن بلا نتيجة، هدر للمال وللجسد، وسؤال الجدوى هنا مرتبط بالقيمة، لا القيمة العينية المادية المباشرة فقط، بل قيمة الصحة وقيمة الجسد وقيمة العمر، وقيمة المُهدى إليه وقيمة النظرة أو الموقف من الذات وتغيّر الموقف لدى الجميع.

أهدت سوزان جدتها جزمة شتوية جميلة ودافئة، ولطالما ردّدت سوزان أنّ سبب سقوط جدتها المتكرّر هو ارتداؤها الدائم لحذائها المنزلي الذي لا يمسك القدم جيداً، كانت مضطرة لتشرح لجدتها فوائد ارتداء هذه الجزمة حتى داخل البيت لسلامة الأربطة ولمنع السقوط والتسبّب بكسور معينة، وما يتبعها من ألم وكلفة وعناية وانشغال الجميع بالجدة. كلّ هذا لتبرّر للجدة القيمة التي صدمت الجدة، فقالت لها بحبّ ورضا: "كل هالقد بتهمك سلامة جدتك!"، وأردفت الجدة قائلة لكلّ من سألها عن سبب ارتداء الجزمة في المنزل: "الحب أهم من الأكل"!

بعضهم يخفي تفاصيل رفاهيته عمداً كي لا يرى الآخرون ما يعتبرونه ترفاً قياساً بواقعهم المر

شهد الصيف الفائت أعداداً كبيرة من الزوار من فئة المهاجرين الجدد، بعضهم جلب ما أبهره في جغرافيته الجديدة، وبعضهم جلب معه الكثير مما يراه ضرورياً، كأجهزة بنك الكهرباء التي تتحوّل لبطارية تؤمن شحن الجوالات وأجهزة الكومبيوتر المحمولة لأفراد العائلة في ظلّ الانقطاع شبه الدائم للطاقة الكهربائية، يتواصل أهل الخارج مع أهل الداخل يومياً، يخفون تفاصيل حياتهم المتعبة لتشجيع أهل الداخل على طلب الاحتياج تعويضاً عن مناخ الرعب والتوتر العام، وبعضهم يخفي تفاصيل رفاهيته عمداً كي لا يطلب الآخرون ما يعتبرونه ترفاً قياساً بواقعهم المر، لكن الغالبية تركز على تلبية الاحتياج الأهم بدلاً من تلبية الرغبات.

تطلب سمية من ابنة شقيقتها إرسال الشوكولاتة دوماً ومن نوع محدّد، تقول مردّدة: "كله بيمرق! الشوكولاتة زينة الحياة الدنيا، سأموت وبيدي لوح شوكولا نسبة الكاكاو فيها تسعون بالمائة". تضحك سمية، وتضحك ابنة شقيقتها، ويضحك كلّ من يحمل معه الشوكولاتة لسمية، هو الاختيار المرتبط مباشرة بالرغبة، هو اكتمال المتعة الموجودة في الدماغ مع فرحة استقبال الشوكولاتة وحاملها.

ما بين سؤال الاحتياج وسؤال الرغبة، وما بين معنى الهدية ودلالتها وجدواها، تضيق التخوم وتتركز الهدايا في نقطة ضيّقة، لكنها تعني وتهتم بالشخص المقدمة له، تلعب الجغرافية دورها، لكن الأهم هو جدلية إعادة بناء العلاقة ما بين أهل الداخل والخارج بصورة مستجدة وطارئة، لكنها أمر واقع يستحق العناية والحذر والحب، كلّ الحب.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.