الصناديق التي تحيط بنا

16 يونيو 2024
+ الخط -

إنه موسم التغيير، ملابس ينبغي أن تخرج من صناديقها، لتحل مكانها ملابس انتهى موسمها! ما بين توضيب للملابس الشتوية وتحضير للملابس الصيفية نغرق في زحمة وقسوة الصناديق المغلقة.

تحيط بنا الصناديق من كل صوب، ننام على ملابسنا المخزنة في صناديق أسرّتنا، ونتكئ على أدواتنا وهدايانا وتفاصيلنا الجميلة مخبأة في صناديق مقاعد الجلوس وفي المطابخ والحمامات، حتى أن كل ما نحبه من مطبوعات وكتب وصورنا الجميلة وألبومات الصور العائلية والشخصية كلها مخبأة في الحواسيب الثابتة والمحمولة! تبدو الغلبة واضحة للصناديق الحادة والصامتة، حتى قطعة الكاتو الصغيرة اخترعوا لها قالباً كرتونياً كالصندوق تماماً وكذلك فطيرة البيتزا وسواها من الأطعمة والحاجات اليومية.

أما السؤال الشقي الذي يفرض نفسه فهو: لماذا يبتكرون المزيد من الصناديق كل ساعة؟ ولماذا ينبغي علينا العيش وكأننا مجرد تفصيل غائم وعائم يضيع مع سؤال يومي أين وضعت أشيائي؟ في أي صندوق أجد صوري أو كؤوسي أو نظارتي؟ نتحول إلى كائنات تائهة ما بين صناديقها، والتوهان هنا ليس مكانياً فحسب، بل يرتبط بالذاكرة وبالرغبة، ونعلل كل بضيق المساحة وخاصة المساحات العمرانية، ونخسر في الوقت نفسه الملمس الحي لأشيائنا والوصول اليسير وتدفق الذاكرة النشطة، نفتقد شعورنا بقربها منا، أو نغرق في الانهماك بحجم الصعوبات المرغمين عليها لتقبّل قساوة الصناديق وصمتها وقدرتها على الابتلاع وتجاهل حواسنا وخاصة البصرية منها.

شهدت ثمانينيات القرن العشرين تحولاً كبيراً في تصميم مفروشات العائلات السورية، فجأة امتلأت البيوت بمقاعد خشبية ثلاثية قعرها عبارة عن صندوق طويل وظهرها مقسم إلى صندوقين أو ثلاثة منجدين بطريقة مريحة للاستناد إليها. كما تم تغيير، وبشكل جذري، تصاميم الأسرّة بحيث احتوت جميعها على صناديق واسعة لتخزين الأغطية الشتوية وكذلك الألبسة والأحذية وربما تحولت في بعض الأحيان لتخزين الكتب والأدوات الزجاجية المنزلية والهدايا أو المزيد المتراكم من المواد غير المستعملة، والتي تحولت إلى عبء إضافي تحت ذريعة الاحتياج إليه ذات مرةّ، بما معناه أن التخزين بذريعة عدم الهدر قد تحوّل إلى شكل من أشكال الهدر المستحدث والذي تمكن من الثبات بفضل سياسة تحول البيوت إلى مستودعات فعلية للصناديق.

لعبة الصناديق ليست لعبة اقتصادية فقط، هي تلاعب بالذاكرة، هي تعميم نمط جماعي واحد، يفقد البشر فرص التميز والاختيار

لعبة الصناديق ليست لعبة اقتصادية فقط، هي تلاعب بالذاكرة، هي تعميم نمط جماعي واحد، يفقد البشر فرص التميز والاختيار، أو إن صح القول يبتلع الخيارات الفردية لصالح خيارات تشبه وصفة واحدة ومكررة لعلاج الزكام، لكن دون جدوى أو فعالية تذكر، فطالما بقي الزكام عارضاً موسمياً يتكرر بوصفه جائحة عند كل تغيير للفصول.

أفكّر حالياً بحجم الأعباء التي تفرض نفسها على النساء السوريات ازدحاما مربكا ومتعبا بالملابس وبالأمتعة، أكواما من الأغطية والملابس الشتوية تستلقي على الشرفات الضيقة وعلى حبال الغسيل، لتجف ثم تطوى بعناية، وربما تضطر النساء لحشرها بصعوبة في صناديق ضاقت على ما فيها مع أنها وربما لم تستخدم لموسم هذا العام وربما لمواسم متعددة سابقة.

أفكر بحجم الخوف والقلق حين ينطفئ حاسوب أحدنا ولو لحظة، يغمرنا الفزع! لقد ضاع كل شيء، الملفات والصور والوثائق! للحظة ما ننتبه إلى حجم الخطر الذي سعينا إليه بلهفة وادعاء بمواكبة الحداثة، لقدر ربطنا ذاكرتنا بصناديق موحشة غير مبالية بمصير عواطفنا ومسار عملنا وتفاصيل عيشنا.

تبتلع الصناديق هدايا وتفاصيل ننساها فعلياً وحينما نفتح الصناديق نكتشفها من جديد، لكننا وبشكل ميكانيكي بحت، ننظفها ونعيدها إلى أعماق الهوة الجديدة التي اخترعوها وقبلنا بها وتفننا بزيادة أعدادها وأحجامها المهولة. من سيحمل محتويات كل تلك الصناديق على ظهره حين يرحل؟ من سيمتلك الوقت أو القوة لاختراق هذه الصناديق والتقاط ذاكرتنا النابضة وترك الصناديق وحيدة مع فراغها المدوي وقاعها المرعب؟ من يمكنه الفرار من رعب الصناديق المحيطة بنا؟

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.