ماذا يعني أن تغدو كاتباً في خريف العمر؟
مصطفى الدروبي
أصبح اقتناء الكتاب والمجلة والجريدة هوساً محموماً أعيشه. فما إن أحصل على مطبوعة إلا وأسرعت لمقعد في حافلة أو حديقة عامّة، وبفرح طفولي، لأستجلي صفحاتها بشغف. وحين أصبح لديّ مكتبة عامرة، كنت أتباهى بها، وأشجع المعارف والأصدقاء على اقتناء الكتاب وتشجيع أبنائهم على قراءة مجلة الطفل العربي "أسامة"، التي بقيت أقرأها وأنا ابن الخمسين وكأنني استعيد طفولتي المشبعة بالحرمان. وكم حزنت على مصير مكتبتي بعدما غامرت وقمت بتهريبها عبر حواجز "داعش"، الذين لو علموا بمحتوياتها لأصبحت بخبر كان.
أحزنني كثيراً مصير تلك المكتبة الأثيرة على قلبي، حين تم رميها في الجبّ، بعدما خشي من كانت بعهدتهم عواقب إيوائها حين دهمتهم جحافل الظلاميين في الليل. كنت توّاقاً على الدوام للكتابة، لكنني ككل الآخرين العاشقين للحرف، كانت لقمة العيش تسرقني منها، وكذلك غياب طقس الحرية، فأنت المقموع شمولياً، لا تستطيع الإفصاح عن مكنونات صدرك، إذ تحاصرك عسس العسكر وحراب الظلاميين وعته الجهلة، لذلك تحبس الفكرة والحسرة بقلبك العاشق للحياة والتوّاق إليها.
وحين عبرت للمنفى بسبب تغريبتنا السورية، وجدت الفضاء الرحب للبوح بما هو مخبوء، فعزمت على الكتابة، وكم عشقت العربية وفضّلتها على كل لغات العالم. حتى إني لا أمتلك الوقت الكافي الآن لتعلم لغة البلد الذي أعيش فيه منذ سنين أربع ونيّف بسبب إرواء عطشي للعربية وجمالياتها.
عبرت الستين اليوم، وأنا مسرور نسبياً بما أكتبه وبشكل متواضع لبعض الصحف، متذكراً أساتذة كباراً تعلمت الكثير منهم، وهم الذين كتبوا بعدما تجاوزوا منتصف أعمارهم أمثال: جورج إليوت وفيليب بولمان وغابريل غارسيا ماركيز وجون إيرفينج وغيرهم.
صحيح أن الشباب باكورة الحياة، وأطيب العيش أوائله كما قال العرب: "ما بكت العرب على شيء كما بكت على الشباب، وما بكى الشعراء من شيء كما بكوا من المشيب". أو لم يقل المتنبي يوماً: (ولقد بكيت على الشباب ولمتي/ مسودّة ولماء وجهي رونق/ حذراً عليه قبل يوم فراقه حتى/ لكدت بدمع جفني أشرق).
إلا أني أرى الكتابة والإبداع عموماً لا يرتبطان بسنّ معينة، بل أحسب أن الكتابة بعد منتصف العمر هي الأكثر رصانة والأجود ديباجة وجزالة. إذْ يكون المرء قد نضج بما يكفي وأفاد من عبر الحياة ودروسها، فيغدو أكثر حكمة وأوسع معرفة، وخصوصاً إن كان قارئاً نهماً وذا شغف باستجلاء ما تخبئه بين دفّاتها أمهات الكتب؛ من أدب ونثر وفلسفة وتاريخ والعبرة بقلوب لا تشيخ. وبمهج تنبض بالحياة على الدوام وتسخر من الزمن، حيث هو مجرد رقم وحسب كما صدح ذات يوم الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي: (سنيّ بروحي لا بعدّ سـنين/ فلأسخرنّ غداً من التسعين/ عمري من السبعين يركض مسرعاً/ والروح ثابتةٌ على العشرين).