فانتازيا

18 ديسمبر 2018
+ الخط -
تقدمت لمسابقة توظيف عام أعلنتها رئاسة الوزراء وذلك قبيل انتهائي من خدمة العلم.. كان هذا في ثمانينات القرن الماضي حيث امتلكني حينها السرور والبشرى كوني سأغدو موظفاً أتقاضى مرتباً شهرياً، خلت أني سأقبر الفقر من خلاله وأهيل تلالاً من التراب عليه كي لا أراه مرة أخرى.. ألم يقل جدي ذات يوم: "الفقر سبب كل فاحشة يا ولدي".

قرأت الإعلان لأكثر من مرة فالمسابقة شاملة لكل الاختصاصات من الاقتصاد إلى التاريخ والجغرافيا والفلسفة والرياضة البدنية والرياضيات.

كانت الطوابير محتشدة والصفوف طويلة حيث لم يتم الإعلان عن مسابقة كهذه منذ سنوات والكل متلهف لفرصة العمر، حيث أعد سلفاً قائمة طويلة بالأحلام والأماني علّها تتحقق من خلال الفردوس الذي سندلف إليه عبر هذه الفرصة.

اصطففت بدوري في الرتل وأخذت أقرأ في الجريدة التي ابتعتها من كشك قريب لأزجي وقتي وأطرد ملل الانتظار الطويل.. كان المشهد كمن اصطف في طابور المواد التموينية للحصول على مادة السكر أو الزيت حيث السوريون كانوا ومازالوا وبشق الأنفس يحصلون على حاجات أسرهم المُقنّنة عبر معاناة مشبعة بالقهر والذل والانتظار... هذا ما عودنا عليه نظام الممانعة في سورية، بحجة أن سبب معاناتنا هو الحصار المضروب علينا من قبل الإمبريالية والصهيونية العالمية والتي تريد النيل منّا ساعية لإسقاط جبهة الصمود والتّصدي وقلب العروبة النابض.. دمشق!!


دمشق الأسد والتي جعلت قادة العدو الصهيوني يتقلّبون على فراش من صفيح ساخن خشية أن يدهمهم الجيش العقائدي الأسدي ذات فجر ويكنسهم عن الجولان وأرض فلسطين.. وهنا عزيزي المواطن ما عليك سوى الصبر والتّحمل والابتعاد عن تقطيب حاجبيك فإياك والتأفف أو التّذمر.. فإن فعلت هذا في لحظة ضيق أو طفر وأعلنت احتجاجك فستغدو بطرفة عين خلف الشمس لأنك ستتهم حينها بالعمالة والخيانة والانتماء للطابور الخامس والسادس والسابع..

كونك وبفعلتك هذه تكون قد عملت على إضعاف الأمة وتوهين نفسيتها!! وأنت لا تدري بالذي يقصدونه بالأمة عبر هذه الكليشيه الممجوجة والتي يعيدونها عند إصدار أحكامهم بحق حرائر سورية وأحرارها من خلال الرفيق فايز النوري!!.. أهي الأمة العربية وفق عفلق أم الأمة السورية وفق أنطون سعادة فالعلم اليقين عند أحدهما!!

خلاصة القول: جاء دوري وإذ أنا أمام لجنة لا تعرف كوعها من بوعها كما يقولون في حلب حيث العقائدية جعلت من كل واحد منهم طاووساً يتحدث من رأس منخاره فتظن نفسك أنك في فرع فلسطين!

بادرني كبيرهم قائلاً: أهلاً رفيق.. قلت: أهلاً أستاذ..
قال: جنابك من حلب..؟ رددت: من ريفها أستاذ.. من بلدة على الفرات، من جرابلس..
قال: إذن تعود لفرع حلب تنظيمياً..؟، قلت: عفواً لم أفهم قصدك (حاولت أن أتغاشم )..؟
قال: مانك حزبي..؟، قلت: لا أنا لا أعمل بالسياسة يا أستاذ.. فرد زميله: يا أخي عجيب جامعي ومخلّص إجازة في الاقتصاد والتجارة وما تشتغل بالسياسة!! رد الثالث قرد! شو يا زلمة كلياتنا بعثيين من يوم أمهاتنا بظطنا.. كيف ما تكون رفيق..؟

تماسكت قليلاً وقلت في دخيلتي طول بالك على البهايم وإلعب بهم قليلاً.. ثم تابعت بس نتوظف ونستقر رح انفكر بهلموضوع..

فقال رئيس اللجنة: إي هه هيك كويس يعني فينا نعتبرك رفيق بعد كم شهر..؟، قلت: كلي شي بوقتو حلو.. فأنفرجت أساريرهم ورأيت في عيونهم علامة الرضا.

قبل أيام من مثولي أمام هؤلاء الطواويس عيّن حافظ الأسد نائباً له من حلب لاعتبارات عدة منها إرضاءً لتجّارها وبعض مشايخها الغاضين من مجريات الصراع الدموي في تلك الفترة خاصة في حلب وحماة وكان هذا النائب مهووساً بالويسكي والنساء ومعبئاً بنزعة المنفخة والزعامة القبلية أكثر من نزوعه نحو بسط الزعامة الحزبية ويقال عنه أنه رفع نبرته أمام برجوازية حلب الطفيلية وبطانتها الفاسدة حين احتجوا على مذبحة المشارقة وقتها قائلاً:

أفهموها بئا.. نحن بالأساس مهمتنا نحميكم من الخطر الشيوعي!! عازفاً على وتر الرهاب من الشيوعية وسط هؤلاء للعمل على تهدئة الخواطر والالتفاف على مشاعر الغضب التي عصفت في المدينة في تلك الفترة.

نعود لسيرتنا حيث سألني أحدهم عن القطاع العام ودوره التنموي في الاقتصاد الوطني فأجبت معتداً وقلت هذا قطاع الفقراء.. فصرخ الآخر مبتهجاً: عظيم.. عظيم.. إي هه صرنا نشتغل سياسة.. فقال الأخير من أعضاء اللجنة (حيث تأكدت من لهجته الحلبية وقصة شعره وشاربيه التي تشبه قصة شعر المذكور الرفيق أبو الويسكي) قائلاً: قرّبنا انخلص بس إذا جاوبت عن هذا السؤال (حينها قلت بيني وبين نفسي: ربما سيسألني عن نظرية مالتوس بالسكان أو عن فضل القيمة وتفسير معناها وفق كتاب رأس المال لكارل ماركس).. فأخذت نفساً عميقاً استعداداً لإجابتي والتي قد تتطلب إسهاباً واسعاً كي أظهر لهم مهارتي باختصاصي.

قال: كلف السيد الرئيس مسؤولاً من حلب كنائب له فإذا حزرت وعرفت إسمه تكون قد عبرت الاختبار بنجاح.

تنفست الصعداء وقبل أن يكمل صرخت: الرفيق الأستاذ ز.. فقالوا بصوت واحد وكأنهم كورس موسيقي... برافو.. برافو رفيق.. مع السلامة.. قلت مع السلامة وانسللت مغادراً وأنا أردد بدخيلتي: بهائم وستبقون كذلك.
B3B9992A-7FF9-4929-A335-A7E6C89340AB
B3B9992A-7FF9-4929-A335-A7E6C89340AB
مصطفى الدروبي
مصطفى الدروبي