16 فبراير 2019
عبد الناصر وجدتي الأرمينية!
مصطفى الدروبي
مصطفى الدروبي
نعود لسيرة راديو التوشيبا والذي ابتاعه المرحوم والدي ليوصلنا عبره بالعالم حيث غدوت معاقراً لهذا الصندوق العجيب غدوة وعشية، بل بت أغرق في نومي العميق وهو صاح لا ينام وحين يأتي بخبر هام كنت أفيق فوراً وأرفع الصوت قليلاً بعد أن أجلس القرفصاء على فراش نومي لأتابع تفاصيل الحدث..
وما كان يؤلمني هو صوت المتراسلين من أبناء فلسطين والذين تشتتوا في رياح الأرض الأربعة بعد نكبة 1948 وغدر الحكام العرب بهم والتآمر على قضيتهم، فهذا أبو حسين من حمولة النمر ودار أبو هدلة يخاطب أخته وهيبة بعد أن تناهى لمسمعه أنها بمخيم النيرب بحلب هي وعائلتها وأن أخاهما عبدالله هو في مخيم تل الزعتر في بيروت ليطمئنها بلهجته المشبعة لهفة وحسرة على حاله وحال أسرته خاتماً قوله أننا بخير ولا ينشغل بالكم علينا.
وبعد أن انهزم الحكام العرب وجيوشهم عبر نكسة الخامس من يونيو/ حزيران عام 1967 زاد الطين بلة فأصبح لدينا مصطلحان يعبران عن هاتين النكبتين.. فحين نذكر كلمة لاجئين يفهم على الفور أننا نقصد بهم إخوتنا أبناء فلسطين، أما كلمة نازحين فالتصقت كمصطلح بأبناء سورية والذين نزحوا هرباً من بطش الإسرائيلي بعد أن باع وزير الدفاع السوري حافظ الأسد الجولان مقابل كرسي الحكم في دمشق.
نعود لقصة الراديو وما يتحفنا به خصوصاً ما نسمعه عبر الأثير من إذاعة دمشق بخطاباتها العنترية وأغانيها الحماسية وبرنامجها المتعلق بفلسطين "صوت فلسطين من دمشق" وافتتاحيته الهادرة كبركان غاضب "من الجليل إلى النقب" غضب..
غضب حيث ما زال الشعب الفلسطيني ينتظر غضب النظام الممانع بدمشق والذي تجلى أخيراً بتدمير مخيماته في سورية، وخاصة مخيم اليرموك، حين وقف جل الفلسطينيين مع إخوتهم السوريين عندما دقت ساعة الثورة بعد هبوب نسائمها من تونس الخضراء.
كنت في الثانية عشرة من عمري، وكعادتي آخذ قسطاً من النوم عند القيلولة، وهذه الحالة التي ما زالت ترافقني لتاريخه، وإذ بإذاعة الـB-B-C البريطانية تنقل خبر وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر..
كان ذلك بعد أصيل يوم 28 سبتمبر/ أيلول من عام 1970، ففزّيتُ من نومي كالملسوع وأخذت ألطم على وجهي وأصرخ بصوت عالٍ وبشكل هستيري إلى درجة أن والديّ قد جفلا مذعوريّن خوفاً عليّ، وكل ظنهم أن طفلهم قد أصيب بمس!!
خرجت للشارع وإذا بالناس زرافات زرافات، والكل يندب وينتحب بحرقة ويلطم، بمشهد جنائزي وحزن شديد، وكأننا بأجواء طقس كربلائي شديد الكرب والبلاء.. لقد كان مشهداً مهيباً يصعب تخيّله، حيث ران الصمت الذي عمّ العالم العربي حزناً على عبد الناصر، وكأن كل فرد قد فقد أغلى ما لديه، وأنا اليافع، كان مصابي وقتها كبيراً، حيث تنتابني نوبات البكاء بين الحين والآخر، وروع الصدمة وعدم تصديق الحدث، فلجأت للقرآن الكريم علّه يخفف من وطأة الفاجعة التي ألمت بي إلى أن أكملت "ختمة" وأهديتها لروح عبد الناصر حينها.
حين أعلنت إذاعة صوت العرب عن أن تشييع الجنازة سيتم يوم 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1970، بادر بعض وجهاء بلدتي إلى تجهيز جنازة رمزية ينطلق حاملوها بالتوافق مع التشييع الذي سيبدأ عبر شوارع القاهرة..
وهذا ما تم فعلاً لكني لم أتصور ذاك المشهد المهيب والذي لم يفارق مخيلتي البتة، حين رأيت أهل بلدتي الفقيرة والبسيطة يخرجون عن بكرة أبيهم شيباً وشباناً نادبين صارخين وكأنهم ينتفضون بوجه ملك الموت الذي أخذ من أحبوه إلى درجة العبادة نحو اللاعودة، وأنا المحموم في هذا الجو المستعر، رأيت ما لا يخطر على بال، حيث جدتي الأرمينية بالقرب مني وهي تبكي بحرقة وتلطم على صدرها قائلة: "وين رحت يا جمال وخليتنا". لقد عقدت الدهشة لساني.. وقلت في دخيلتي: حتى أنت يا جدتي؟!
دلالات
مدونات أخرى
02 فبراير 2019
23 يناير 2019
18 ديسمبر 2018