ماذا سنفعل برسائل لا يأتي بها سُعاة البريد؟

20 يوليو 2024
+ الخط -

صِدِّيقْ يلعب فقط بقهقهاته، نحيلاً يسند معي جداراً يتداعى، والسّعادة إن أردتَ الصّراحة، مجّاَنيةٌ كالموتِ، والفقرُ نبيٌّ. 

في ضوءِ النّجوم لا أرى سوى الظّلام، أصرخ: كم هو جميل ظلام اللّيل وجميلة عيناكِ المكحَّلتانِ.  الجريمةُ تتبخترُ كمُومسٍ تُكمل زينتها قبالة مرايا السيّارات. الأسنان الّتي عضّت الحيرةَ ناصعةٌ، وسال السّهر والضّحك الهستيريّ من الصّرخات، فسهرنا حتّى الفجر دون أمّهات ولم نَجُعْ، والرّعد عزف لنا، والرّيح راقصةٌ فاحشة.

من يمشِي على الجليد يحسُّ بلسعةِ النّار في التجلّد. الأيّام تضع قدمها فوق قشرة البطّيخ، فنضحك حين تزلق، ولا يساعدها أحد على الوقوف سوى النّسيان.

يا َعبْدَ الْعَليّ؛ لقد طلعَ اللّيلُ، وأشرق البدر، واتّضح المصير في الأفق كالخفاّش. تعال ننبش قمامة الفيلَّات، نجد بقايا القريدس الملكيّ والفستق المعلّب منتهي الصّلاحية، ونجد التّاج. سندخّن عقب سيجارٍ باهظ في سوق باب الرَّحْبَةِ، ونحن نبيع وهم الغنى للفقراء بثمن الجملة، والملائكة يزايدون ولا يشترون، والشّيطان وحده سمسار الغفلة بين البائع والمفلس، ونهر أبي رقراق يشهد الزّور.

من لم ير جرذاً تحت السّرير كأنّه أبداً لم يسافر. أحبُّ خالتي رَابحَةْ بنقابها البلديّ، وأكره السّماء الصّافية والطّيور المهاجرة الّتي لا تنزل لتشربَ معنا شاي العصر. ماذا سنفعلُ بالرّسائل الّتي يأتي بها سُعاة البريد من مدنٍ لا نعرفها؟ ماذا سنفعل بنشرةِ الأخبار في الصقيع؟ هل تعرف قبل ذلك كلّه امرأة اسمها إزَّة؟ تسوّلت خمسة وعشرين عاماً ولم يتصدّق عليها أحد أبداً بوردة، وحين ماتتْ لم يستطع ماءُ التّغسيل محو وشمها الجميل.

تسوّلت خمسة وعشرين عاماً ولم يتصدّق عليها أحد أبداً بوردة، وحين ماتت لم يستطعْ ماء التّغسيل محو وشمها الجميل

أينَ كنتَ حين احتجناك في آخر اللّيل، ولم تَخرج لنا كالملاك من الظّلام وفي يدك عود ثقاب. لقد أشعلنا نصف سيجارة بِحَكِّ رصيفٍ برصيفٍ، وبعقبها أشعلنا العالم، ولم نطلب منك أكلاً.

كيف سنقوّم إعاقة خَالِدْ حين نعود من سرقةِ الفيلَّات متمايلين مع نغمةِ أذان الفجر، وخالدُ خالدٌ في الصّمت وفي الجهر. والنّجوم أعقاب سجائر الملائكة، والفرحة لو أردتَ المكاشفة تُعرف بالحزن المزمن. النّجوم تموّه اللّيل بالضّوء، ونحن نموّهه بالنّهار.

المطر يغيب كالآباء نصف عام، وحين يعودُ يعود مبْتلّاً ومُبْترداً لأجلنا، ندخله أكواخنا ونعطيه معاطفنا الّتي كانت معلقةً طيلة الخريف في سوق الْغَزْلِ ولم تساومها سوى الرّيح. ونعطيه حساءً بلا ملعقة أيضاً.

والعجوزُ تحبّ الصّوف وتكره الحسكة. وبناتُ الجيران يُزَيِّنَّ الشّجن الدّافئ بالدُّفوفِ والسّوَالفِ الطّويلةِ المُحنّاةِ والكحلِ اللّيليِّ الحارِّ في عاشوراء. هل تعرفُ نَادْيَةْ؟ لقد أحبّت رضْوَانْ وهربت معه حتّى أنجبت. وهل تعرف قبل ذلك من هو رضوان لتعرف من هي نادية، لتعرف كيف يكون الحبّ على درّاجةٍ ناريّةٍ بلا مكابح؟!

نبيعُ دود القزّ ونسرق مشابك شعر البنات الكبيرات، ومن يسقط متعثِّراً بحجرٍ يرى السّيقان الجميلة وألوانَ الأزهار والأسرار، ومن لا يسقط يرى ظلّه طويلاً، ويظنّه شرطيّاً فيهربُ منه ليصطدمَ بدوريّةٍ تبحث عن مَلِكٍ هارب من مُلْكِهِ، أو عن ملاكٍ مطرود من الطّفولة.

أنا رأيتُ حياتي كرة خِرَقٍ يتقاذفها الأطفال في الشّارع المترب فقذفتها معهم بأقدامهم وضحكنا جميعاً، حتّى صفّ الشُّيوخِ الطّويل المتّكئ على سورِ المقبرة مات من الضّحك، وتحوّل إلى تماثيل أجداد ومُقاومين صلع ومحاربين قدامى، أفرغوا كلّ الرّصاص والمنيّ دون تقتير ولم يربحوا سوى لذّة النّميمة واتّزان السّعال.

الأيّام تضع قدمها فوق قشرة البطّيخ، فنضحك حين تزلق، ولا يساعدها أحد على الوقوف سوى النّسيان

هناك، بعيداً، بَنَتِ الجماعة جامعاً. إن كنت لا تصدّقني سَلْ حَفِيظَةْ بائعة النّعناع فهي لا تكذب على الغرباء. وأنا وصِدِّيقْ علَّمْنَا الفقيه الجديد القادم من قلعةٍ بعيدةٍ خلف جبال الأطلس، أن يُفرِّق بين دوّار الدُّوم ودوّار الحاجّة، وأن لا يتوه في الدّروب، وفي صلواته، ولم يشكرنا، وحين انحنى ليلتقطَ درهم جبينه الذي سقط نشلنا كيسَ نقوده، واشترينا به زعتراً لندخّنه، واشترينا شمعاً وحليباً للعجوز لتدعو لنا بالخير والفلاح والصّلاح، واشترينا مسامير ليطرقها أبي في حذوات أحصنة خاسرة، أعطيناه مالاً مسروقاً ليقامر به ويخسر، ولم نندم لأنّ الله يحبّ الفقراء والشّعراء، ويكره الوشاة.

وحين تمزّق حذاء صِدِّيقْ طرقه أبي بمسامير من ذهب قصص ألف ليلة وليلة، وحين جعتُ أعطتني خالتي رابحة خبزاً معجوناً بالدّمع فلم أَجُعْ بعده أبداً ولم أبكِ.

إنّي أمجّد البسطاء الماكرين كلّ يوم في صلاتي، والله يقبل صمتي الحاقد، وأنتَ لا تفهم كيف يكون الخريف محراباً، والرّيح صلاة، والعاصفة الهوجاء تسبيحاً، والزّلزال دعاءً مستجاباً.

أمجّد عبد العلي وخالد والعوني وقدّور وسالم ورقية وإطّو وجعفر وإزة وعبد المولى وبّا قاسم وعبد الله الأحمق وارحيمو وبّا بِيدار والعروسي وخالتي فاظمة وبّا بوجمعة وأبي وأعمامي الإسكافيّين.. وأصنع لهم نصبًا بسيطًا بالحبر من كبرياء الشّعر ولا أمجّد السّلاطين، ولا أبكي مع المطر.

النّجوم أعقاب سجائر الملائكة، والفرحة لو أردتَ المكاشفة تُعرف بالحزن المزمن. النّجوم تموّه اللّيل بالضّوء، ونحن نموّهه بالنّهار

أنا وصِدّيقْ طلبنا من قرويّةٍ جميلةٍ كاعبٍ، كانت تُرضِع طفلها أن تسكب لنا قطرة حليب في أعيننا، لتصيرَ مثل أمّنا. الجميع رأى ثديي العجوز حين أحرقت الشمعة التي أعطيناها كوخها، وأنقذها اللّصوص. أنت لا تعرف بّا قدُّور الذي يربط نظَّارته بسلكٍ ويبيع للأطفال حلوى أجمل من النّجوم الّتي تلمع بعيداً جدّاً فوق الأكواخِ بلا معنى. لا تعرف خالتي حادَّة العمياء الّتي تصعد سلَّماً وتكنس سطح كوخها وتغنّي التّماوايْت (موال أمازيغي)، لا تعرف أنّها ماتت وحدها في ليلة مرعدة، وظلّت الشّمعة وحدها مشتعلة في العماء، لماذا إذن تريد مني أن أحكي لك الآن حكاية جارحة عنها، وأنت لا تعرفها ولا تعرف زوجها ذا العين الوحيدة واليد الوحيدة والرّجل الوحيدة الذي غرق في النّهر، ولم ترَ أبدًا شجرة الأوكاليبتوس الضّخمة الّتي جاء الرّجال ذات صباح متطوّعين ليقطعوها دون أن تؤذيهم بأيّ شيء. ربطوها بحبلٍ كالزّانية في الأساطير، والرّجل الغريب ضربها بالساطور في قلبها حتّى نزّ دمها، ولم تصرخ، وجرّوها لتسقط، وبأغصانها طُبِخ خبز الحيّ كلّه شهوراً في فرّان بْلعيد الكبير في الزنقة رقم 01.

أنت لا تعرف أنّ تلك الشّجرة كانت في كوخنا، وفي الغد جاءت العصافير ولم تجدها. ماذا كنت سأقول للعصافير؟ ما الّذي ستفعله العصافير بجذرِ شجرةٍ وبيوضٍ مكسورة؟ 

لكن اسمع، لقد أنقذتُ العصافير، كان الدّخان يصعدُ كثيفاً كالتضرّعات اليائسة من مدخنة الفرّان. كانت الشّجرة تهرب إلى السّماوات، وأنا أشرت بإصبعي للعصافير أن تبعتها..

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.