ليل السوريين الطويل
غنّت السيدة فيروز أغنية "سكن الليل وفي ثوب السكون تختبي الأحلام... وسع البدر وللبدر عيون ترصد الأيام"، وهي قصيدة للشاعر اللبناني المهجري جبران خليل جبران، لحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب عام 1967.
"سكن الليل" في الماضي، أما في الحاضر فيعيش آلاف السوريين منذ كارثة الزلزال المدمر، الذي ضرب تركيا وسورية في 6 فبراير/ شباط، حالة من الحزن والخوف والصدمة، والتأهب الدائم، وصدور إحصاءات وصور تكشف هول الكارثة. فمثلاً في محافظة اللاذقية، "وصل عدد الضحايا وأضرار الزلزال إلى نحو 805 وفيات، و1131 إصابة، و105 أبنية منهارة، و900 مبنى متضرّر بشكل كامل"، وهي إحصاءات مبدئية مصدرها قناة أوغاريت المحلية، ما دفع الناس لتشييد خيم في الحدائق والساحات العامة تحتوي على بعض الفرش، والأغطية والمدافئ.
أما في الأرياف، فأصبح يوجد بجانب كلّ بيت خيمة إيواء، أو سيارة للنوم، أو عربة جرار زراعي حُوّلت إلى خيمة إخلاء أو سكن دائم، وذلك لإيواء الأطفال والنساء والمرضى والعجائز. وأما الذين بقوا في المنازل، فقد اتبعوا نظام المناوبة بين الزوج والزوجة للتحذير من الهزّات والزلازل ومراقبة موقع القمر بالنسبة لكوكبي الزهرة والمشتري. هذا هو ليل السوريين في شهر شباط/ فبراير، كما في سنوات الحرب العشر، حيث لم يسكن ليلهم أبدا.
لقد عمّت حالة استقرار جزئي في المنطقة، لكن زلزال أنطاكية (يوم الإثنين 20 فبراير/ شباط) زاد قناعة الناس مجدّدا، بأنّ حالة الاستقرار والأمان مشكوك فيها، حيث حرّك هذا الزلزال صدع "كلّس اللاذقية"، وكان زلزالاً قوياً، أدخل الخوف والذعر مرّة أخرى إلى قلوب الناس. لكن لحسن حظ الناس، كانت حركة الزلزال شاقولية، بينما كانت حركة الزلزال الذي وقع في 6 شباط/ فبراير أفقية، ما نجم عنها أضرار جسيمة.
جارنا "أبو الزين" عمره خمسة وخمسون عاماً، لديه ثلاثة أولاد، أحدهم مريض، تعرّض بيته لأضرار جسيمة نتيجة زلزال 6 فبراير/ شباط، وبعد الكشف على المنزل من قبل لجنة السلامة الإنشائية المشكلة من محافظة اللاذقية، تبيّن أنه آيل للسقوط، وطلب منه إخلاء المنزل، وبدأت رحلة بحث أبو الزين عن منزل لإيواء عائلته، وفشل في إيجاد منزل بسبب هجرة سكان المدينة إلى الريف، والبحث عن منازل آمنة للإيجار.
في الماضي، كان وما زال البيت حلماً للسوريين، وذلك لارتفاع سعره، فما بالك اليوم، وقد دمرّه الزلزال، وتصدّع؟
لقد استجار بنا أبو الزين لإنقاذ أثاث منزله من التلف في محلنا، ونصب خيمة في ساحة منزله، منتظراً مصدراً داعماً لبناء منزل، أو لترميم منزله، أو منزل مسبق الصنع. والمشكلة إن وُجد بيت للإيجار، فإن أجاره مرتفع، يتراوح بين 200 و 250 ألف ليرة سورية، علماً أنّ دخل أبو الزين لا يتجاوز 150 ألف ليرة! والمضحك المبكي أنه أعلن عن قرض التمويل الصغير لترميم المنازل المتضرّرة وقدره 18 مليون ليرة سورية دون فوائد، وقسطه الشهري 250 ألف ليرة لنعود إلى نقطة الصفر.
في الماضي، كان وما زال البيت حلماً للسوريين، وذلك لارتفاع سعره، فما بالك اليوم، وقد دمّره الزلزال، وتصدّع؟ من أين الموارد لإعادة إعمار البلاد من الكارثة الطبيعية والبشرية؟ وكأن قدر السوريين ملاقاة حتفهم بطرائق متنوعة، من قوارب الموت، إلى دروب الضياع في غابات دول البلقان، إلى موتى ضمن شاحنات التهريب... كأن السوريين نفقهم طويل، لا ضوء، لا سكون، لا صدى لهم.
نحن كسوريين في الداخل، موتى من الحرب والفساد، والزلازل والطغيان (السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي)، وما زلنا نحلم بعالم أفضل رغم المآسي، والذي جدّد حلمنا هم السوريون في الخارج الذين تبرّعوا لإخوتهم السوريين في الداخل، بغضّ النظر عن العرق والمذهب، وكان شرطهم الوحيد توزيع المساعدة باليد للمتضرّرين حصراً، هؤلاء الذين نعوّل عليهم. وأخيراً كما قال الكاتب السوري والمسرحي سعد الله ونوس: "نحن محكومون بالأمل".