المرأة السورية بين المطرقة والسندان (30)
تأخرت مجموعة من العناصر عن الاجتماع الصباحي أثناء تأديتي للخدمة العسكرية، فطلبهم الضابط للتحقيق، وسأل أحدهم: "شو اسمك يا ابني؟". ردّ العنصر بصوت منخفض، فقال الضابط: "عليّ صوتك يا ابني؟ صوت المرأة عورة".
لقد تزوجت جارتنا أم أحمد الأميّة في عمر مبكر، وفقدت زوجها بعمر مبكر. رحل وترك لها تسعة أولاد (ست بنات، وثلاثة صبيان). كان أكبرهم يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً. وهكذا بدأت رحلة الشقاء لأم أحمد في البحث عن سبل العيش. وبعد فترة من الزمن، بدأت تُطلب يد البنات للزواج من قبل الشبّان الذين يفوقونهن عمراً، ابتداءً من العشر سنوات حتى عشرين سنة.
وكان همّ أم أحمد تزويج البنات بغضّ النظر عن العمر، وتقول: "البنت أحسن لها بيت زوجها". وفعلاً تزوجن. وبعد صمت دام خمسة عشر عاماً اعترفت إحداهن واسمها "عذاب" لأهلها بالعنف الجسدي الذي تعرّضت له من قبل زوجها، والذي أثّر على صحتها، فتشكّلت خثرات في الدماغ نتيجة الضرب المبرح والمستمر على الرأس. ولزواج "عذاب" قصة، وهي التي تزوجت عن عمر ستة عشر عاماً، حيث رفض أخوها تزويجها باكراً، واصطحبها إلى محافظة أخرى لتكمل تعليمها، لكن دون جدوى. وازداد ضغط المجتمع وأمه، لإعادتها وتزويجها. وفعلاً تمّ الزواج، ووقعت الكارثة. تفاوض الأخوة مع الزوج دون جدوى، وأصرّ الزوج على موقفه وسلوكه. قال أخوها: "اتركيه.. لك بيت عنّا"، فقالت لهم: "وأولادي؟". وفعلاً ربّت أولادها حتى كبروا، وتحولّوا إلى منظمة حقوقية للدفاع عن أمهم.
والتاريخ يعيد نفسه، مع امرأة أخرى اسمها "عتاب"، والتي تحمل درجة الماجستير في علم الاجتماع، حيث تعرّضت للعنف الجسدي من قبل زوجها الذي هو من بيئة مختلفة عنها. لم تتأخر عتاب بإخبار والدها عن العنف الذي تعرّضت له، فقرّر الأب على الفور اللقاء بزوجها، وقال له: "بنتي غالية عليّ، كما أولادك غاليين عليك، وأي اعتداء على بنتي، سيكون القانون بيننا. لا أقبل إنو بنتي تموت على إيدك، أو تحمل عاهة مدى الحياة". وفعلاً وضع موقف الأب حدّاً للعنف. مع العلم أنّ هذا الأب هو نفسه الذي حاول منع زواج أخته "عذاب"!
ومن خلال تجربتي وعملي، الذي ألتقي فيه بالكثير من الناس وأسمع القصص، قالت لي أم لؤي: "همّ البنات للممات"، وروت لي قصة عائلة عنوانها ضرب المرأة بوحشية لأي سبب كان، ويتعاون الأخوة في العائلة على ضرب أيّة زوجة كانت. وقالت لي أم لؤي: "كل هالضيعة بتتزوج من خارج المحافظة" فسألتها: "ما السبب؟" فقالت: "لأنهم يضربون المرأة بطريقة وحشية لذلك يرفض أهالي القرى المجاورة تزويج بناتهم لهم، وخصوصاً بعد حادثة وفاة امرأة بسبب ضرب زوجها. حيث اشتكت هذه المرأة عدّة مرات لأهلها، وكان ردّهم دائماً: "الحق عليكي ما بتعرفي تتعاملي معو". حتى وصلهم نبأ وفاتها. وُضع زوجها في السجن مدة ثلاث سنوات، وكان المجتمع معه. والذي أبقاه في السجن هذه المدة هو إفادة ابنها بأنه قتل أمه".
بعد انكسار المشروع القومي (1967)، وصعود المشروع الإسلامي السياسي، بدأ يتغير واقع المرأة السياسي والاجتماعي والثقافي نحو الأسوأ
نحن في سورية، لا نعطّل بيوم المرأة العالمي (8 آذار/مارس)، لكنه مذكور في كتب المناهج الدراسية فقط، أما العطلة الرسمية فهي (21 آذار/ مارس) يوم عيد الأم. حيث يزور الأبناء أمهاتهم الأحياء أو الأموات. أما الأم التي فقدت ابنها فتزور قبره وتضع الورود والآس.
إنّ الأمهات في سورية مناضلات حقيقيات خصوصاً بعد فقد الزوج، فأم تتعلم قيادة جرار زراعي لتحرث الأرض، وأم تخبز على التنور لتطعم أولادها، وأم تقود سيارة نقل ركاب، وأخرى تفتح محلاً للخياطة. والمرأة بعد فراق زوجها (بالموت أو بالطلاق) تكون عرضة للعنف اللفظي أو الجسدي من قبل المجتمع الذكوري، وللأسف يختلف الرجال على كلّ شيء إلا على قضية المرأة يتفقون.
إنّ النساء السوريات عبر التاريخ صانعات للمجد، من زنوبيا ملكة تدمر إلى الرائدة قمر كيلاني التي ساهمت بتأسيس اتحاد الكتاب العرب، والحائزة على أفضل قصة قصيرة في مسابقة أقامتها هيئة الإذاعة البريطانية BBC، إلى نازك العابد (1927) التي أسّست جمعية تعليمية مهنية، وأسماء الخوري (1945) التي أسّست جمعية صحية، وسامية مدرس (1952) التي قامت بتأسيس جمعية خيرية، وأيضاً أليس قندلفت التي أسّست جمعية سياسية (1943).
ونوقش حق انتخاب المرأة السورية في المؤتمر السوري العام عام (1920)، وحصلت المرأة على حق الانتخاب عام 1945، وفي عام (1953) منحت المرأة حق الوصول إلى المجلس النيابي. وكانت ثريا الحافظ أول سيدة تترشح للمجلس النيابي، وعائشة دباغ أول امرأة في سورية والوطن العربي تدخل المجلس النيابي في عام 1965.
لكن بعد انكسار المشروع القومي (1967)، وصعود المشروع الإسلامي السياسي، بدأ يتغير واقع المرأة السياسي والاجتماعي والثقافي، والدليل على ذلك ظهور مصطلحات على قنوات التواصل الاجتماعي كجهاد النكاح، والتشديد على لباس المرأة ...إلخ.
وأخيراً، إنّ المرأة السورية تعيش بين مطرقة الذكورية وسندان العادات والتقاليد الموروثة، والتخلف والجهل المقدس، والظروف الاقتصادية السيئة. علماً أن المرأة في الوقت الحالي هي مقياس لتقدم المجتمعات وتحضرها، وهي مقياس للديمقراطية بمشاركتها في الانتخابات. فعشتروت عبر التاريخ هي آلهة الخصب والحب والحرب لدى الفينيقيين والكنعانيين، وكما قال ابن عربي: "المكان الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه".