فلسطين... يا أحرار العالم اتحدوا
شكّل موقف السلطان عبد الحميد الثاني عام 1869 موقفاً هاماً للمنطقة العربية، وذلك لرفضه عرضاً من قبل اليهود، بتقديم وطن لهم في فلسطين مقابل إيفاء ديون السلطنة. لكنّ دخول الأوروبيين إلى المنطقة، وإعطاء وزير الخارجية البريطاني، آنذاك، أرثر بلفور، وعده (وعد بلفور) بإقامة دولة يهودية حقق لهم ذلك. فبدأت بعد ذلك، مشاريع تقسيم المنطقة، كما تجلّى في اتفاقية سايكس بيكو، ثمّ مشاريع تقسيم فلسطين من خلال اللجان، والكتاب الأبيض، والكتاب الأسود... حتى وصلنا إلى "أوسلو" رغم الانتقادات والاعتراضات. آنذاك، قرّر ياسر عرفات دخول المفاوضات وتوقيع اتّفاق أوسلو، وسئل أبو عمار أكثر من مرّة عن إصراره على المفاوضات، فكان جوابه دائماً: "العودة إلى فلسطين".
ومع الزمن، تبيّنت صحة اتفاق أوسلو رغم ثغراته، والذي سمح بدخول الفلسطينيين إلى فلسطين. وهذه العودة إلى فلسطين فعّلت صراع الفلسطينيين ضد الإسرائيليين، رغم ضعف إمكاناتهم العسكرية؛ إلّا أنّ الجغرافيا أثبتت أهميتها في الوقت الراهن، في تقوية موقف الفلسطينيين محلياً وإقليمياً ودولياً. حتى أنّ الإسرائيليين اكتشفوا الخطأ الكارثي بإدخال الفلسطينيين إلى فلسطين. وبالرغم من الانقسام الفلسطيني بقيت المقاومة فاعلة ومؤثرة وذلك للقرب الجغرافي، وتطوير أساليب المواجهة مع الإسرائيليين من أدوات إعلامية، وعسكرية، وقدرات بشرية خارقة تفوق الخيال.
شبّان كانوا أطفال حجارة، تحوّلوا إلى نسور يطيرون في سماء فلسطين، ويُسقطون القنابل، وينفذون إنزالاً جويّاً في كافة المستوطنات المجاورة لمدينة غزة، وترافقهم العمليات البرية السريعة والخاطفة، والإعلام الحربي المرافق لتوثيق الحدث الفلسطيني، وهذا العمل البطولي كان عنوانه "طوفان الأقصى".
هذه البطولات ليست غريبة عن الفلسطينيين، ففي عام 1987نفّذ الفلسطينيون عملية هبوط الطائرة الشراعية في معسكر غيبور قرب بيت هيلال، ونفذ العملية الشهيد، خالد أكر، من سورية التابع لفصيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة.
إنّ اللافت في الحدث الفلسطيني الجاري اليوم، هو تصريح سفير فلسطين في بريطانيا الدكتور حسام زملط، وطريقة ردّه على الإعلام الغربي، في ما يخصّ إدانة العملية، إذ قال: "أنا هنا أمثّل الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض للإبادة والقتل، أنا هنا لأكون مع القانون الدولي".
غزة وحّدت الفلسطينيين في كافة أنحاء العالم، وعرّت العالم الحر الذي منع الفلسطينيين من التظاهر
وبعد عملية طوفان الأقصى، شنّت إسرائيل عدواناً وحشياً على قطاع غزة من خلال القصف الوحشي على الأحياء المأهولة بالسكان، والأطفال والنساء. وما هي إلا لحظات حتى بدأت تتكشف آثار الجريمة والإبادة بحق الفلسطينيين من صور أب يحمل أشلاء أولاده في كيس من النايلون، وآخر يحمل نصف ابنه، وابن ينهار أثناء تشييع أبيه ليرتقي في اليوم الثاني شهيداً، وطفل آخر يده مقطوعة يرفع بيده الأخرى إشارة الشهادة أو النصر. وطفل آخر يمسك جذع شجرة ولا يعرف أين هو، وأم تصرخ "فقدت كلّ عائلتي... إنّها صبرا وشاتيلا" ترفض الخروج من الحيّ رغم القصف الوحشي، وتنتقل إلى رحمة الله في اليوم الثاني.
غزة تعلوها سحب الدخان، غزة تفوح منها رائحة الموت، غزة أعادت فلسطين إلى خريطة نتنياهو في الأمم المتحدة، غزة... شوارعها ومستشفياتها مليئة بجثث الشهداء.
غزة تنتظر لحظة إلهية للحزن وللبكاء ودفن شهدائها، غزة وحدّت الفلسطينيين في كافة أنحاء العالم، وعرّت العالم الحر الذي منع الفلسطينيين من التظاهر.
نحن لسنا مع العنف، لكنّ العنف يولّد العنف، والسياسة تولّد السياسة، والاقتصاد يولّد الاقتصاد، والحكومات الإسرائيلية المتتالية وآخرها المتطرّفة، ولّدت سلوكاً مقاوماً، عنفياً، يردّ على العنف.
حكومة رفضت الجلوس مع الفلسطينيين والإفراج عن الأسرى، حكومة مأزومة داخلياً، حكومة لا تفكر بأسراها، حكومة سيحاسبها الإسرائيليون كما حُوسبت الحكومة أثناء حرب تشرين (أكتوبر) 1973 على تقصيرها.
وأما بعد، أقول: أنا فلسطيني ودمي فلسطيني، عشت في بيت فيه أبٌ عاش سنوات مع الفلسطينيين، وعايش البطولات في وجه الاحتلال من دلال المغربي إلى سمير القنطار، وصافح يداً بيد ياسر عرفات في لبنان، وفقد ابنه في إحدى الغارات الإسرائيلية المتكرّرة على سورية، لذلك ستبقى فلسطين بوصلتنا.