لماذا نتذكر قانصوه الغوري ولا نعرف جمال السلاموني؟
كان زمناً فوضوياً، مماليك متمردون، لا يهدأ تمرد لهم حتى يتبعه آخر، وأحوال اقتصادية متردية، وفساد مستشر لا يحجز تمدده وازع من ضمير أو سلطان، في ظل أوضاع كهذه المفترض ألا يرجو أحد أبعد من السلامة، لكن جمال الدين السلاموني لم يلزم تلك القاعدة فجاء استثناء لها.
تقدم إلى ساحة النضال شاهرا شعره، في زمن لم يكن يلتفت فيه أحد إلا لصليل السيوف، غير أن مهارته في الطعن بالكلمات جذبت إليه أبصار الجميع، من أقل الناس شأنا حتى السلطان قانصوه الغوري.
أما جمال الدين فكان بصره معلقا بالبسطاء الذين انتمى إليهم، يسمع شكواهم من ضيق الحال فينظمها أبياتا شعرية، ويشهد مظلمتهم من موظفي الدولة فيسلّط نظمه على أولئك سياطا تلهبهم، ليشكو الظالمون إلى القضاة حتى يقطعوا لسان حال المظلومين، لكنهم لم يقدروا إلا على سجنه.
وما أن يخرج من حبسه حتى يعاود الكرّة، إلى أن أوقعته همته في مطاردة لصوص الدولة مع أحد موظفيها الكبار: معين الدين بن شميس، وكيل بيت المال، أصابته أبيات السلاموني بجرح بالغ في مقامه بين الناس عندها انطلق الموظف الكبير يشكو صاحبها إلى أهم قضاة الدولة عبد البر بن الشحنة.
اعتبر القاضي قصيدة جمال الدين عن فساد بن شميس خروجا عن الأدب، وأمر بضرب السلاموني وتجريسه تعزيرا. كانت العقوبة أشد وقعا على نفس شاعرنا الحرة من كل ما مر به، وآلمه كذلك أن القاضي الذي أمر بضربه وتجريسه هو الآخر فاسد، يسرق أموال الأوقاف ويكرهه الناس لمظالمه الكثيرة، هذا المعنى أهاج نفس السلاموني الشعرية فامتشق قريحته وسطر:
فشا الزور في مصر وفي جنباتها
ولم لا و"عبد البر" قاضي قضاتها...
إذ جاءه الدينار من وجه رشوة
يرى أنه حل على شبهاتها
فإسلام عبد البر ليس يرى سوى
بعمته والكفر في سنماتها...
ألست ترى الأوقاف كيف تبدلت
وكانت على تقديرها وثباتها
فإن كان في الأوقاف ثم بقية
تكذبني فيما أقول، فهاتها...
ولو أمكنته كعبة الله باعها
وأبطل منها الحج مع عمراتها...
لكي يكون للرواية التاريخية حضور في الذاكرة الجمعية لا بد من أن تحمل كذلك معنى رمزيا، ورغم توافر الشروط الثلاثة في حكاية شاعرنا لكن ذلك لم يعصمها من النسيان
ومثلما فشا الزور في مصر فشت القصيدة بين الناس، تناقلوها في مجالسهم وتسامروا حول أبياتها، وما منهم إلا مشفق على جمال الدين مما سيلحق به جراء جرأته التي بلغت حدا لا يطيقه، خاصة وأن شاعرهم المحبوب عرّض أيضا بالسلطان لسكوته على كل تلك المفاسد.
لم يمض وقتا حتى قذف أحدهم القصيدة شامتا إلى سمع القاضي، فتفجرت أبياتها في نفسه غضبا وحقدا على جمال الدين، لينطلق بن الشحنة شاكيا إلى شريكه السلطان الغوري، وقانصوه عوضا عن أنه طالما شارك عبد البر في اغتصاب الأوقاف كان لصا، ينهب من أموال الدولة والناس فوق ما يسرقه بن شميس وعبد البر معا، حتى ما كان يخرجه لله لم يستح الغوري أن يكون منهوبا، فمجموعته المعمارية الشهيرة القائمة حتى اليوم بالقاهرة الفاطمية والمكونة من مسجد ومدرسة وسبيل يعلوه كُتاب وخانقاه للصوفيين وحمام؛ أقامها بالسرقة والنهب والسخرة، إذ نزع ملكية المدرسة من أمير شرع في بنائها، ليستكملها عمال قانصوه وتنسب له، أما المسجد فنهب مماليكه جميع مواد البناء من المدارس والدور المجاورة، وأجبروا العمال والحرفيين على العمل بأجور زهيدة، وأحيانا من دون أجر، فحرض هذا الناس زمنا على التندر بالجامع ليكنوه المسجد الحرام.
مع كل مظالمه كان الغوري يتذوق الشعر، ويحب نظم السلاموني وكثيرا ما استدعاه ليلقي الشعر في المجلس السلطاني، وقيل أن قانصوه حرض جمال الدين على هجاء عدد من موظفي الدولة الفاسدين ممن كان يغضب عليهم، ولدى علم الغوري بترويج وكيل بيت المال أن السلطان هو من سمح بإنزال العقاب على السلاموني لما بدر منه في حق بن شميس، أمر الغوري بحبسه، وظل فترة طويلة فيه، لكن شكاية قاضي القضاة اتخذت مسارا آخر.
استدعى السلطان السلاموني ولدى حضوره وبّخه الغوري قائلا: أتهجو شيخ الإسلام بهذا الهجاء الفاحش؟! اجتهد جمال الدين في التملص من التهمة، لكن حصار عبد البر ومعه بقية القضاة كان محكما والغضب عاصفا، ليصر بن الشحنة وزملائه على تسليم الشاعر إليهم؛ حتى ينزلوا به العقاب المستحق بعدما نال من هيبة قاضي القضاة وهيبتهم جميعا.
قادوا جمال الدين مكبلا، ونادوا في الأهالي كي يتجمعوا في المدرسة الصالحية ليشهدوا محاكمته. أسرع الناس إلى المدرسة، إلا أن الراصد لتدافعهم داخلها كان ليلاحظ شيئا غريبا، أكمام قمصانهم منتفخة بصورة واضحة، وما أن أصدر القضاة حكمهم بجلد السلاموني وتجريسه عبر وضعه حاسر الرأس على حمار ليطاف به في الشوارع والأزقة، حتى تخففت الأكمام من انتفاخها حجارةً ألقيت على الأرض، ليتناولها الناس حجرا تلو الآخر، وبكل ما في نفوسهم من حقد وغضب قذفوها تجاه القضاة.
كان مشهدا فريدا، السلاموني المدان والمحكوم عليه بالجلد والتجريس يقف مبتسما مرفوع الرأس بعمامته البيضاء، والقضاة من أرادوا ضربه وتجريسه تساقطت عمائهم أرضا بعدما طأطأوا رؤوسهم تفاديا للحجارة، أما قاضي القضاة فكادت تزهق روحه من كثرة استهداف الرماة لعمامته الكبيرة. كانت جرسة تحاكى بها الناس في المحروسة زمنا طويلا.
اضطر القضاة أمام تلك الثورة إلى الانسحاب من دون إنزال عقابهم بالسلاموني، فلم يُنفذ الحكم، لكن لأن الدولة دولتهم وحتى لا تضيع البقية الباقية من هيبتها، ألقي جمال الدين في السجن أشهرا إلى أن أطلق الغوري سراحه بمناسبة شهر رمضان، وبعد خروجه حافظ على عهده مع الناس في شعره فحفظوا محبته بأكمامهم المنتفخة.
تكتنز تلك الحكاية التاريخية شروطا أو أبعادا ثلاثة حددها المؤرخ الفرنسي بيير نورا لإضفاء صبغة "الذاكرتية" على الحكاية، أي أن تكون حاضرة في الذاكرة الجمعية، فحكايتنا تحوي بعدا ماديا لا يحيلنا بالضرورة -بحسب نورا- إلى الأماكن أو الأشياء ذات الطبيعة المادية، بل يضم أيضا أمورا مثل: الأحداث التاريخية، دقائق الصمت إحياء للذكرى، أو حتى استعادة الحكاية وسرد الأبيات الشعرية..
هناك أيضا البعد الوظيفي ويؤشر إلى وظيفة معينة تقوم بها الذكرى ضمن المنظومة الاجتماعية، ولكي يكون للرواية التاريخية حضور في الذاكرة الجمعية، لا بد من أن تحمل كذلك معنى رمزيا، ورغم توافر الشروط الثلاثة في حكاية شاعرنا ولكن ذلك لم يعصمها من النسيان.
فضّل التاريخ الرسمي بنهجه في تخليد الحكام وإن كانوا طغاة ولصوصا مثل الغوري، أن يقصر مساحة أفردها لهذا العصر على سيرة السلطان المملوكي، ليكون حاضرا في مناهجنا الدراسية وفي منشوراتنا على تنوعاتها -أي في الذاكرة الجمعية- على حساب جمال السلاموني الشاعر المصري المناضل ضد الفساد، فتخليد الغوري جاء بالضرورة على حساب تذكّر السلاموني، لأن تخليد الأول دعوة ضمنية إلى نسيان الثاني، كأن التاريخ الرسمي بنهجه ذاك عمد إلى حصر القيمة في الحاكم، وإن كان ظالما فاسدا مثل قانصوه (وغيره)..