"الاستيهام"... في حكاية عرابي الهمام (1)
ينبهنا علم النفس أو مدرسة التحليل النفسي تحديداً إلى أن هناك حيلاً دفاعية يستعملها اللاوعي حفاظاً على صورة معينة كونها الفرد عن نفسه، وفي سبيل تحقيق ذلك ينكر اللاوعي الحقيقة، محاولاً تغييرها والتلاعب بها من خلال حيله، منها حيلة تسمى الاستيهام، وتعني خلق موضوع خيالي لإشباع رغبة مفتقدة في الواقع، وهي في حكايتنا ستكون الرغبة أو الحاجة إلى البطل.
الحكاية تبدأ بمشهد رواه تاريخنا الرسمي، يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، عن بطل من أبطالنا المعاصرين، عرابي، الرجل الذي وقف أمام الخديوي توفيق ليعلن أن المصريين لن يورثوا أو يستعبدوا، حينما أخبره الأخير أن الشعب المصري ليس إلا "عبيد إحساناتنا"، هذا الحوار لطالما تصدر كتبنا الدراسية إلا أنه محض خيال، لم يحدث على الإطلاق، فلا تقع عليه في أي مصدر لمن عاصروا حوادث الثورة العرابية واشتركوا فيها وكانوا من بين زعمائها، المصدر الوحيد لهذه الواقعة هو مذكرات عرابي بعدما اختلق الحوار.
لا يقف الاختلاق عند هذا المشهد أو عند حد عرابي فإذا تتبعنا حكايته سنقع على اجتزاءات قامت بها الرواية التاريخية المعتمدة حتى تنسج صورة أمست تاريخا رسميا، مع أنه أقرب إلى "الاستيهام" منه للحقيقة.
نعم لم يقع الحدث مثلما روى عرابي، لكن الرجل أنفذ إرادته بعدما حاز تأييد الجيش وفاز بتعاطف الناس، فلُبيت مطالبه في مقدمتها عزل رياض باشا من رئاسة النظارة ليتولى محمد شريف باشا، ورغم أنه تولى بفضل عرابي بعد رفضه ترشيح الخديوي لمحمد حيدر إلا أن شريف باشا المعروف بأنفته ووطنيته رفض علانية تدخل العسكر في إدارة شؤون البلاد.
كان لأبي الدستور المصري مواقف مشهودة تسجل اعتزازه بنفسه وبكرامة منصبه، منها استقالته من وزارتي الحقانية والخارجية (1878) حين استدعته لجنة التحقيق الأوروبية المختصة بتسوية الديون لسماع أقواله، فكان الوزير الوحيد الذي رفض وآثر الاستقالة، وكرر فعله، فأعفى نفسه من رئاسة النظارة إثر عزوف الخديوي توفيق عن اعتماد تشكيل مجلس النواب (1879).
حاول عرابي منذ لحظة تشكيل الوزارة فرض كلمته، بتولية محمود سامي البارودي وزيرا للحربية ومصطفى فهمي وزيرا للخارجية "لما يعلمه من ميلهما إلى العدالة والحرية"، إلا أن شريف باشا عارض متردداً في قبول الوزارة ولم يقبل بتشكيلها إلا بعدما عاهده العرابيون في بيان مكتوب ألا يتدخلوا في السياسة، وأن يمتثلوا إلى قرارات الحكومة، كذلك كتب أعيان البلد وكبراؤها بيانا مماثلا يتعهدون فيه بعدم تكرار أي من حوادث تدخل العسكر في السياسة، معلنين تأييدهم الكامل وثقتهم التامة في شريف باشا، حينها حسم أمره، ليشكل الوزارة في 14 سبتمبر سنة 1881.
بقبوله رئاسة النظارة استأنف الباشا مشروعا بدأه قبل ظهور العرابيين على الساحة السياسية بسنتين، حينما وضع أول دستور للبلاد (1979)، ليحول دون صدوره عزل الخديوي إسماعيل، وفي سبيل هذا الدستور استقال شريف باشا عندما رفض توفيق اعتماد تشكيل مجلس النواب، بسبب ميله إلى الحكم المطلق.
وفي فترة قصيرة برهن رئيس النظارة على أنه رجل دولة وسياسة من طراز فريد، لبى مطالب العسكريين بإصداره عددا من القوانين استهدفت تحسين ظروفهم المعيشية وإصلاح التعليم في المدارس الحربية، ليعبر له العرابيون عن امتنانهم ويجددون تعهدهم بالانصياع إلى أوامر الحكومة.
تقدم بعدها خطوة ساعياً إلى نقل رؤساء الحراك خارج القاهرة، حتى يخفف ضغطهم على العاصمة ويحقق مراده في استقلال قرار الحكومة، مستندا في إقناعه عرابي على أخبار وردت حول إرسال الباب العالي وفدا للتحقيق فيما حدث من تمرد، وأن إذعان العرابيين لقرار الحكومة سيدلل على استتباب الأمر، كما سيقوي موقف مصر بصفة عامة في المجتمع الدولي.
امتثل العرابيون لقرار شريف باشا فانتقل الاي عبد العال حلمي إلى دمياط، والاي عرابي إلى الشرقية. 4 أشهر قضاها بعيدا عن العاصمة، اقترح البارودي بعدها تعيين عرابي وكيلا لوزارة الحربية، فعاد إلى القاهرة (يناير 1882) وقد تعاظمت مكانته، فقصده مراسلو الجرائد الغربية يجرون معه الأحاديث والحوارات، كما أمسى بيته مقصدا لذوي الحاجات وأصحاب الشكايات.
في الوقت ذاته، انتظم المسار الديمقراطي الذي أشرف على إخراجه شريف باشا، فدعا إلى انتخاب مجلس شورى النواب حتى يكون جمعية تأسيسية للدستور الجديد، وحرص الباشا على نزاهة الانتخابات، حيث وزع منشورا هو سابقة لا نظير لها في تاريخنا الحديث، ينبه مديري المديريات من خلال المنشور الرسمي إلى احترام حرية العملية الانتخابية وعدم التدخل في سيرها.
تلى انتخاب البرلمان وضع الدستور أو ما عرف وقتها بـ "اللائحة الأساسية" التي اقتضت إقرار المجلس النيابي القوانين والميزانية والرقابة على أعمال الحكومة، لكن قبل إصدار الدستور فوجئ الجميع بمذكرة من قنصلي إنكلترا وفرنسا يبديان فيها استياءهما من تشكيل المجلس، ويعلنان بها تأييدهما لسلطة الخديوي ومساندة دولتهما له إزاء الأحداث الأخيرة، تبع ذلك مذكرة أخرى طلب فيها القنصلان من رئيس النظارة ألا يخول للمجلس النيابي حق تقرير الميزانية.
أغضب التدخل السافر المصريين، ومال عرابي وصحبه إلى تحدي المذكرة المشتركة، لكن شريف باشا ارتأى درءا للأزمة تأجيل إقرار الميزانية حتى لا يهب للدولتين العظميين حجة للتدخل العسكري، ونصح بهذا أيضا محمد عبده، فنُقل عنه قوله: "لبثنا عدة قرون في انتظار حريتنا، فلا يشق علينا أن ننتظر الآن بضعة أشهر"، وكان عبده من أوائل من تنبهوا ونبهوا إلى تربص إنكلترا وفرنسا بالبلاد وإلى خطر تدخل العسكر في السياسة، وتنبأ مبكرا، في كتابات نشرت في "الوقائع المصرية"، أن هذا التدخل سيفضي إلى احتلال البلاد، وكان ذلك قبل أن يلتحق بالحركة العرابية ويصبح من زعمائها.
النصيحة نفسها قدمها مستر بلنت إلى عرابي، إذ كانت إشارات أن إنكلترا وفرنسا تتحينان الفرصة للانقضاض على البلد أنصع من أن يغفلها أحد، منها إرسالهما بارجتين حربيتين إلى ميناء الإسكندرية لدى وصول الوفد التركي تعبيرا عن الاستياء، لحضور الوفد دون التشاور مع الدولتين مسبقا.
كذلك سجل عرابي نفسه في مذكراته، أنه لاحظ هو وغيره من قادة الحراك تردد السير إدوارد مالت قنصل إنكلترا على الخديوي نهار مساء لدى حدوث الأزمة معه، فتدارس العرابيون الأمر وجرى على ألسنتهم أن إنكلترا ترغب في احتلال مصر مثلما فعلت فرنسا بتونس، لكن عرابي تغافل عن كل ذلك ودفع بسير الأحداث إلى الصدام، حيث رفض ومعه كبار الضباط، وعلى رأسهم محمود سامي البارودي، مقترح شريف باشا بتأجيل مناقشة الميزانية.
وعلى ذكر البارودي، هو نموذج آخر من نماذج "الاستيهام" في رواية التاريخ الرسمي الذي قدم الرجل ربّاً للسيف والقلم، وبطلاً من أبطال الثورة العرابية، لكن صورته المنعكسة في حوادث التاريخ من دون اجتزاء ليست بهذا اللمعان، فالبارودي كان في طبعه من الخسة والدناءة ما يبتعد به عن أي نوع من التمجيد والاحتفاء.
لا يذكر التاريخ الرسمي أنه صدَّق وزيراً ـ في بداية عهد الخديوي توفيق ـ على قرار نفي أستاذه جمال الدين الأفغاني، الذي قدم للبلاد خدمات أجل من أن تحصى، ونُقل عن الأفغاني بعدها كلمات مغمورة بالمرارة لنكوث البارودي بعهده مع الرجل العظيم.
ليس هو فقط الذي نكث معه البارودي العهد، فحينما كان في وزارة شريف باشا الثانية، عاهد الباشا جميع وزرائه على الاستقالة إذا رفض الخديوي توفيق تشكيل مجلس النواب بعدما استشعر رئيس النظارة ميلا لدى الخديوي إلى الحكم المطلق، وبالفعل رفض توفيق اعتماد التشكيل ليقدم جميع الوزراء استقالتهم عدا اثنين، مصطفى فهمي (الذي عرف بعدها كأكثر رؤساء الوزارات تعاونا مع الإنكليز) ومحمود سامي البارودي.
لهذا السبب مانع شريف باشا اقتراح عرابي ضم البارودي إلى الوزارة التي شُكلت بعد عزل رياض باشا، وعلل شريف ممانعته بذكره تلك الواقعة إلا أن عرابي أصر.
كان البارودي كذلك من شجع عرابي على التشدد مع شريف باشا بخصوص مناقشة بند الميزانية من دون تأجيل، ولا يخفى غرض الرجل الطموح، أنه فعل ذلك تطلعا إلى رئاسة النظارة، فالتعنت كان ليجبر شريف على الاستقالة وبالتبعية ـ في ظل سيطرة العرابيين ـ سيكون مرشحهم للمنصب، إلى جانب أن عرابي وكيل وزارة الحربية حينها، سيصبح بكل تأكيد وزيرا للجهادية، وهو ما حدث بالفعل.
هذه الراديكالية لم تصحب البارودي في المحاكمات إثر فشل الحراك، حيث وقف أمام قضاته مبررا انضمامه إلى العرابيين، أنه وأهله وماله كانوا رهينة لدى زعماء الثورة! لهذا اضطر إلى مسايرتهم! ألقى باللائمة على زملائه لينجو بنفسه!
الخلاصة أن عرابي وصحبه تناسوا تعهداتهم إلى شريف باشا بأن ليس لهم أطماع، وأنهم لن يتدخلوا في السياسة، وتغافلوا عن التهديد المعلن للبلاد في ظل حالة لا تتيح لها مجابهة الخطر الجدي وقتها، ليحرضوا مجلس النواب على رفض مقترح التأجيل، فكان لهم ما أرادوا وإن لم يأخذهم بعيدا مثلما أملوا، وللحكاية بقية..