"الاستيهام" في حكاية عرابي الهمام (2)
استقال شريف باشا وتولى البارودي رئاسة النظارة وعرابي نظارة الجهادية، وجاء التحدي الأول للوزارة الجديدة سريعا، حين تكشفت مؤامرة لاغتيال عرابي وضباطه الكبار، فتسببت طريقة عالج بها العرابيون الأزمة في تفجير الوضع بصورة أشد خطرا، تستدعي إلى الذاكرة قصة ذلك الرجل الأحمق الذي أراد التخلص من بعوض أزعجه فأضرم في بيته النار.
تباينت الآراء حول ما إذا كانت المؤامرة حقيقية بالفعل أم أن فزع عرابي على حياته، في ظل تواتر المؤامرات، هو ما نفخ فيها، ووجدها فرصة للتخلص من خصومه، في الحالتين أجريت محاكمة عسكرية لأطراف المؤامرة، ليقضي القضاة على أربعين ضابطا شركسيا بالنفي المؤبد إلى أقاصي السودان، مع تجريدهم من الرتب العسكرية والنياشين، إلا أن الخديوي أحجم عن التصديق على الحكم، إذ رآه بالغ القسوة، فعدله إلى النفي خارج البلاد من دون تحديد جهة بعينها مع احتفاظ المدانين برتبهم العسكرية ونياشينهم.
أصر العرابيون على عقوبة التجريد من الرتب، وأغراهم أن الخديوي كان يتراجع في كل مرة أمام قوتهم، لكن توفيق بتشجيع من قناصل الدول الأجنبية لم يرضخ لما أرادته وزارة البارودي أو بالأحرى لما أراده عرابي، فاجتمع النظارة وقرروا إحالة المسألة إلى مجلس النواب بعد دعوته للانعقاد، غير أن قرارهم واجه مشكلة، فالدعوة ينبغي صدورها عن الخديوي، وبالطبع رفض، لتتحداه الحكومة وتدعو المجلس إلى الانعقاد!
بتحريض من شعور بالعنفوان والقوة هدد العرابيون بخلع الخديوي وتنصيب الأمير حليم باشا بدلا منه إذا لم يرضخ لحكمهم، أما دعوة المجلس النيابي للاجتماع فجاءت بالمخالفة للائحة الأساسية أو الدستور، كل ذلك لأن الخديوي استخدم إحدى صلاحياته فعدل حكم النفي محتفظا للضباط برتبهم العسكرية، مع إقراره العقوبة.
إصرار عرابي والبارودي على تجريد الضباط المتآمرين من رتبهم لم يتجاوب معه النواب المجتمعون، فآثروا الاعتدال وعدم تصعيد المسألة، وأقروا تعديل الحكم مثلما ارتآه الخديوي على غير إرادة الحزب العسكري، وكان النواب قبلها رهن مشيئة العرابيين.
في ظل معادلة طرفها الأول يتجبر من غير عقل والثاني يتسم بالتردد والضعف، كان طبيعيا أن تجذب طرفا ثالثا يتمدد بين الطرفين مستغلا مسافة آخذة في الاتساع، هذا الطرف تمثل في الدولتين العظميين، إنكلترا وفرنسا، اللتين استدعتا أسطوليهما، لتوجها إنذارا إلى الحكومة، معلنتين مساندتهما للخديوي ضد ما اعتبرته الدولتان ثورة عليه، لتطالبا باستقالة وزارة البارودي وإبعاد عرابي خارج البلاد مع احتفاظه برتبه ونياشينه وعزل كل من علي فهمي باشا وعبد العال حلمي باشا.
قطع الجيش الإنكليزي المسافة من القصاصين حتى ميدان المعركة تحت جناح الظلام من دون أن يصادفوا أي طلائع للجيش المصري تُنبئ بمقدم العدو
رفضت الوزارة الإنذار، لكن الخديوي أبدى رضاه فاستقالت احتجاجا (مايو 1882)، وبالطبع تسببت الاستقالة في حالة من الاضطراب، خاصة في الجيش، فالاستقالة كانت تعني عزل عرابي عن منصبه، إلا أنه أرسل برقية إلى كبار ضباطه بأن استقالة الوزارة لا تعني تنحيته من رئاسة الحزب الوطني، طالبا منهم الائتمار بأوامره وحفظ الأمن.
في هذه الأثناء حاول الخديوي في اجتماع حضره النواب والأعيان وكبار رجال الدولة والعلماء تشكيل حكومة جديدة برئاسة شريف باشا غير أنه أبى، في الوقت ذاته اجتمع عدد كبير من النواب في منزل رئيس مجلسهم سلطان باشا وحضر عرابي ليلحق به بعض كبار ضباطه منهم علي فهمي وعبد العال حلمي ومحمد عبيد، يصحبهم عدد من صغار الضباط والجند في حالة من الثورة والهياج، منادين بخلع الخديوي، متوعدين من يواليه، وتقدم عرابي ليلقي خطبة طعن فيها بالأسرة العلوية، مطالبا بعزل توفيق، وأمر علانية باستدعاء ألاي خليل بك كامل لمحاصرة سراي الإسماعيلية حيث يقيم الخديوي، ثم ختم كلامه: "من كان معنا فليقم".
صُدم عرابي وصحبه حين لم يجبهم أغلب النواب إلى ما أرادوا، ليسل محمد عبيد سيفه مهددا المخالفين، لكن النواب تمسكوا بموقفهم رافضين عزل الخديوي، عندها تقدم الضباط في مسار آخر، فطلب عرابي وطلبة باشا عصمت ويعقوب باشا سامي من سلطان باشا أن يتوسط لدى توفيق من أجل استمرار عرابي وزيرا للجهادية.
رفض الخديوي الوساطة بداية، إلا أنه عاد فقبل تحت إلحاح الأعيان والعلماء. في ظل هذا التخبط كانت إنكلترا تتقدم إلى مبتغاها، متابعة تحرشاتها، فأبرق الباب العالي (5 يونيو 1882) إلى الحكومة المصرية يُعلمها بشكاية تقدمت بها بريطانيا مفادها أن الجنود المصريين يقومون بأعمال ترميم في حصون الإسكندرية بنية تهديد الأسطولين الإنكليزي والفرنسي، لتطالب الآستانة بإيقاف تلك الاستعدادات إذا كانت جارية.
كانت إنكلترا في هذه الأثناء تصدر للعالم صورة أن هناك تمردا على الخديوي يهدد سلطانه، وأن استمرار حالة الاضطراب علاوة على تعريضها حياة الأوروبيين للخطر ستؤثر بالسلب على اقتصاد البلد، من ثم قدرته على الوفاء بالتزاماته أمام الدائنين الأجانب.
غذى تلك الصورة أداء عرابي المتسم بالطيش والاندفاع ومفارقة الحكمة وحسن التقدير، وهل نقول المتمركز حول الذات؟ بعدما سنحت له أكثر من فرصة للاختفاء من المشهد، من ثم تجريد الإنكليز من حجتهم الرئيسية حول تهديد سلطة الخديوي.
من هذه الفرص، لدى استقالة حكومة البارودي إلا أن عرابي أصر على استعادة منصبه حينما رفض النواب مسايرته في عزل الخديوي، كذلك عند طلب رئيس الوفد العثماني (الثاني) درويش باشا -الذي جاء للتحقيق في أزمة الضباط المنفيين- من زعيمنا السفر إلى الآستانة لمقابلة السلطان في محاولة للإبعاد من المشهد بهدوء غير أن عرابي أبى.
تداعت الأحداث بعدها مثلما هو معروف، فمن واقعة المالطي والمكاري إلى وقوع المصادمات بين الأهالي والأجانب إلى ضرب الإسكندرية ثم حريقها على يد أحد قادة عرابي منعا لتقدم الجيش الإنكليزي، عين بعدها عرابي محمود باشا فهمي رئيساً لأركان الحرب، وكان من أكفأ المهندسين العسكريين، فوضع خطة محكمة لصد هجوم الجيش الإنكليزي، لكن عرابي أفشل خطة فهمي (وهو درس لم نتدارسه لأن الرواية الرسمية موهت عليه ليتكرر، من ذلك في 73 حين رفض السادات هو الآخر الاستماع إلى رئيس أركانه الفريق الشاذلي وقادته لتحدث ثغرة الدفراسوار، فكاد النصر ينقلب إلى هزيمة).
رفض عرابي نصيحة فهمي بسد ترعة الإسماعيلية منعا لوصول المياه العذبة إلى بورسعيد والإسماعيلية والسويس، كذلك سد قناة السويس حتى لا يتخذها الإنكليز قاعدة عسكرية، ولا يكون أمامهم إلا المخاطرة بخوض الصحراء الشرقية أو مهاجمة القاهرة من طريق الدلتا لتعوقهم الترع والجسور.
ورغم تقدم الجيش الإنكليزي إلى بحيرة التمساح وبورسعيد، واحتلال السويس في تأكيد أن النية مبيتة للزحف من القناة إلا أن عرابي أصر على غفلته ورفض الإنصات إلى مجلسه العسكري الذي أجمع على وجوب سد القناة، ليوجه عرابي عنايته إلى تحصين المواقع العسكرية بين الإسكندرية وكفر الدوار، مهملا المواقع الممتدة من الإسماعيلية إلى التل الكبير.
بدأت المناوشات والمعارك وكانت واقعة القصاصين الثانية أهمها، وأظهر فيها الجنود المصريون بقيادة الفريق راشد باشا حسني وعلي باشا فهمي بسالة باهرة، ووفقا للخطة كان على محمود سامي البارودي التحرك من موقع تمركزه في الصالحية إلى خط القتال، لكن رب السيف ضل طريقه فلم يصل في الموعد، كذلك كان على عرابي الاشتراك في المعركة غير أنه لم يتحرك من التل الكبير، إضافة إلى خيانة الضابط علي يوسف خنفس وإصابة القائدين الكبيرين راشد حسني وعلي فهمي لتقع الهزيمة كاشفة عن مدى ضعف الدفاعات المصرية، ثم كانت موقعة التل الكبير التي استدعى عرابي لقيادتها علي باشا الروبي بعد إصابة قائدي موقعة القصاصين الثانية.
وفق شهادة مستر بلنت، الإنكليزي المناصر للثورة العرابية، فإن عدد الجيش المصري لم يتجاوز 10 آلاف أو 12 ألف جندي، أما البقية فكانوا جنودا أحداثا لم يسبق لهم إطلاق النار في مواجهة 50 ألف جندي محترف يدعمهم 60 مدفعا، وفي المواجهة الكبرى، وبحسب بلنت فإن "خيرة الجنود لم يكونوا بالتل الكبير، بل كانوا في كفر الدوار بقيادة طلبة عصمت، أو في دمياط بقيادة عبد العال حلمي، وهؤلاء لم يشتركوا قط في المعركة".
عزف عرابي لسبب غير معلوم عن استدعاء آلاي كفر الدوار أو آلاي دمياط ولم يشترك في القتال سوى أورطتين من الآلاي الأخير، ليفاجئ الإنكليز المصريين في التل الكبير نياما بعدما سهروا يستمعون للابتهالات والمدائح من أهل الطرق.
قطع الجيش الإنكليزي المسافة من القصاصين حتى ميدان المعركة تحت جناح الظلام من دون أن يصادفوا أي طلائع للجيش المصري تُنبئ بمقدم العدو، ليتمخض عن ذلك هجوم استمر حوالي 20 دقيقة، لم يشترك في صده سوى ثلاثة آلاف جندي من الجانب المصري أما البقية فألقوا أسلحتهم ولاذوا بالفرار بعدما استكمل قائدهم كل أسباب الهزيمة.
هزيمة عرابي جاءت نتيجة طبيعية للرعونة وغياب الكفاءة وعدم القدرة على موازنة الأمور والاستخفاف بالعدو والاغترار بقوة متوهمة، فلم يخف على عرابي الحال المزري للجيش، وكان في مقدمة المطالب إلى الخديوي تحسين أحوال الجيش وزيادة عدد أفراده من 12 ألفا إلى 18 ألفا (حسب الفرمان العثماني)، لكن ذلك لم يثبط من اندفاع عرابي غير المنضبط بموازين القوى ولم يردع اغتراره بما أُوكل إليه من زعامة.
يتدخل التاريخ الرسمي بعدها مستعملا آلية الاجتزاء كي ينزه بطله عن أي عيوب وينفي عنه أي كوراث تسبب بها، وبالطبع جرى هذا تحت بند التوظيف السياسي للمعرفة التاريخية، إضافة إلى الحاجة المجتمعية لنموذج البطل، لكنه بطل لا تصوره الحقيقة بقدر ما يختلقه "الاستيهام".