حكاية تافهة عن حاضرنا الذي كان
حادثة تافهة وهامشية ولأنها كذلك لم يولها المؤرخون أي اهتمام، لتهمل تماماً مع مثيلاتها لصالح الأحداث الكبرى، فإبراز الأخيرة والاحتفاء بها نقداً وتحليلاً وتتبعاً لتفاصيلها هو دعوة ضمنية لتجاهل الأولى رغم ما قد تحمله من قيمة وقدرة على تشكيل التاريخ.
من هذه الوقائع اخترت واقعة تعود إلى زمن الإخشيد، ففي تلك العصور القديمة الزمن مثلما الدولة ينسبان للحاكم على الحقيقة، فحوله يدور كل شيء (وهل اختلف الحال في عصرنا؟!) أما بطل الواقعة أو على الأحرى بطلاها فزرافة وفيل، ظهرا فجأة من بين الأشجار يسيران بجوار بعضهما البعض، اتجهت إليهما أنظار جميع المتواجدين بالمكان عدا اثنين، محمد بن طغج مؤسس الدولة الإخشيدية في مصر، وأحد قادته، يدعى أبو المسك كافور.
أجال ابن طغج بصره في مرافقيه، فوجدهم وقد انصرفت أنظارهم جميعاً إلى الزرافة والفيل، عدا كافور لم تطرف عيناه أو تتحول عن سيده، وحين التقت عين كافور بمولاه، نهض الأخير وصاح منفعلاً "والله لأورث دولة ابن طغج غير هذا العبد".
ربما تندهش من ردة فعل الإخشيد، وترى في تصرفة مبالغة وشططاً، لكن الغرابة لا تحجز التفسير، فالحاكم الذي امتاز بشجاعته وإقدامه في الحرب عرف عنه حرصه البالغ وحيطته بل فزعه في السلم، فكان له ثمانية آلاف مملوك، يحرسه في كل ليلة ألفان، ولدى سفره في شأن من شؤونه، تنصب له خيمة كبيرة، داوم على التسلل منها ليبيت في خيام عبيده، فيوزع ليله في الانتقال من واحدة إلى أخرى.
كان زمن فتنة ومؤامرات، لا يكاد يثبت الأمير على ما في يديه، وهو ما وقع لابن طغج بالفعل فقد ولي حكم مصر بعد وفاة سلطانها تكين، غير أنّ الخليفة العباسي عزله ليولى غيره، ويتداول السلطنة والٍ بعد آخر، فهذا يُعزل وذاك يفرّ هارباً إثر خروج الناس عليه، حتى استقرّت مرة أخرى عند الإخشيد.
هذه كانت ظروف عصر الإخشيد وحاله وقتما شعر بالامتنان تجاه كافور فوقف صائحاً "والله لأورث دولة ابن طغج غير هذا العبد" فما بال أبو المسك وكيف حاز تلك المكانة؟.
بعد موت عبد الناصر أطلق الحاكم الجديد الصحافة وأجهزة الإعلام كافة، كذلك السينما لمهاجمة الرئيس الراحل وكل ما يخص فترة حكمه
اشتراه ابن طغج بثمانية عشر ديناراً، تدرج كافور بعدها حتى وصل إلى أعلى المراتب في الدولة، لكن ذلك لم يمنعه، مثلما يذكر المؤرخون، من أن يستمر في خدمة مولاه كأنه مازال على عتبته الأولى لم يرتق درجة واحدة، ولم يكن هذا مما جرت عليه العادة وقتها، فما أن يحظى المملوك بشيء من النفوذ والسطوة أو يقطعه سيده إقطاعاً من الإقطاعات حتى ينصرف إلى حاله، يستكثر من أسباب القوة، ثم ينقلب في كثير من الأحيان على مولاه، إما بتحريض من طموحه أو مدفوعاً بقلق السيد وخشيته مما بلغه مملوكه. وتمثّل الإخشيد نفسه تلك السيرة، إذ انقلب في يوم من الأيام على مخدومه تكين.
أما كافور فكان كلما ارتفع قدره ازداد إجلالاً وخضوعاً لابن طغج، ويروى عن أبي المسك إصراره، حتى بعدما أمسى أهم رجل في الدولة، على تقديم الطعام بنفسه إلى الإخشيد، ليقدّمه الأخير على رجاله.
تمتع كافور بنفسية العبد أو "المقهور" (المفهوم لعالم النفس اللبناني مصطفى حجازي) وهي نفسية لا يدخل في تصنيفها كل عبد مثلما لا يخرج عنها كل حر، تقوم على تقدير منخفض للذات وإعجاب بالمتسلط واستسلام لإرادته بشكل كامل.
وفي سيرة أبي المسك ما ينبئ عن تلك النفسية، حيث يذكر الرواة أنه قبل انتقاله إلى ابن طغج تداوله أسياد آخرون، وإذا بكافور يصاب بالجرب عند أحد هؤلاء فيطرده، لينطلق في شوارع المدينة مريضاً جائعاً، يصادف طباخاً يلحّ عليه كافور أن يعطيه شيئاً يأكله، فيضربه الطباخ بمغرفته ضربة قوية يسقط معها المسكين فاقد الوعي، ويمرّ عليه أحدهم وهو على هذه الحال، فما كان من الرجل إلا أن أشفق علي كافور فالتقطه وآواه وعالجه حتى برأ، عندها عاد طوعاً لسيده الذي ألقاه مريضاً في شوارع المدينة!.
هذه الحال من الإخلاص في خدمة الأسياد أحسنوا إليه أم أساءوا زالت بموت الإخشيد، حينها امتلك أبو المسك أمره وأمر البلاد أيضاً، فأقصى وريث ابن طغج "أونوجور" البالغ من العمر وقتها 14 عاماً. أخفي الصبي عن الأنظار ولم يُتح له التدرب على شؤون الحكم، وحين زهد أونوجور في حياة اللهو التي أسلمه إليها كافور ورغب ابن الإخشيد في استرداد إرث أبيه، احتال عليه أبو المسك ودس له السم ليتكرر الأمر مع الأخ الأصغر بعد تنصيبه أميراً على البلاد إثر مقتل أخيه.
كان كافور "مقهوراً" في ظل وجود السيد (الذي عرف عنه العدوانية والعنف)، مستسلماً إلى حالة من الدونية والمهانة، منغمساّ في مزيد من الخضوع رغم ما حازه من نفوذ بدولة الإخشيد، ولأنّ الذي ألزمه الطاعة لم يكنّ الإخلاص إنما نفسية "المقهور"، فمبجرد أن رحل ابن طغج طوى كافور تفانيه وحجز ابني الإخشيد عن إرثهما ثم قتلهما واحداً تلو الآخر.
بوصولنا إلى هذا الحد، يمكنك أن تبصر معي بعين الخيال التشابه الحاصل بين الحكاية القديمة وبين حكاية قريبة، وقعت في عصرنا الحديث، تدور أيضاً حول رجلين حاز كل منهما ملك مصر، هما جمال عبد الناصر وأنور السادات.
منذ اللحظة الأولى لـ 23 يوليو/تموز في اجتماعات مجلس قيادتها وعين السادات كانت معلقة بعبد الناصر، لم تنصرف عنه طرفة عين، كان النقاش يمتد لساعات، كلٌ يبدي رأيه، يتفق مع ناصر حيناً ويختلف حيناً آخر، عدا السادات، كان موافقاً لقائد يوليو على طول الخط، وفي حادثة مشهورة فوّضه السادات بصوته في اجتماعات المجلس؛ ليصبح لعبد الناصر صوتان.
تفرقت السبل بعدها بأعضاء مجلس قيادة الثورة، فمنهم من انصرف بصره لقيم آمن بها (خالد محيي الدين ويوسف صديق) أو إلى مهام غرمته الصدام مع ناصر (كمال الدين حسين) أو إلى طموح شخصي (عبد الحكيم عامر)...، أما السادات فلم يصرفه شيء عن التزام كل ما يقره عبد الناصر.
خضوع السادات له استمر حتى النهاية، ما جعل الأخير يحتفظ به رغم إطاحته بكثير من رفاقه، ويذكر محمد حسنين هيكل واقعة توضح أكثر نفسية المقهور لدى السادات، ففي سياق ما روى هيكل أنّ السادات كان يعد القهوة -وهو نائب رئيس الجمهورية- لناصر (مثل كافور الذي كان يقدم الطعام لسيده بعدما صار أهم رجل بالدولة)، ولأنّ السادات لم يكن مخلصاً ومحباً حقاً، مثلما كافور تماماً، فبعد موت عبد الناصر أطلق الحاكم الجديد الصحافة وأجهزة الإعلام كافة، كذلك السينما لمهاجمة الرئيس الراحل وكل ما يخص فترة حكمه، في إشارة إلى ما يؤكده علم النفس من أنّ المقهور لا بد أن يأتى حين ويندفع إلى الانتقام من فترة الاستسلام والمهانة.
في استطاعتك ألا تتقيد بنموذج قدمته لك يحاكي تلك الحادثة القديمة، التافهة والهامشية، والتي حرضت تفاهتها وهامشيتها المؤرخين على إهمالها، لكنها مع ذلك كانت فاعلة في مجرى التاريخ فحملت كثيرين، بما تضمنته من دلالة، إلى أبعد مما أسر طموحهم إليهم يوماً؛ يمكنك أن تتجاوز حكايتي لتبصر بخيالك حكايات أخرى لم تغب عين كافورها لحظة واحدة عن سيده رغم أنف جميع الزرافات والأفيلة، ليمسي كل كافور وإن خلا من أي موهبة ملكاً أو أميراً أو قائداً أو رئيساً، مؤهله الوحيد أنه كان كافوراً.